بقلم غالب قنديل

قصور النموذج الغربي وعجزه عن حماية الإنسان

 

 غالب قنديل

تدمن آلة النظام اللبناني والقوى السياسية، المعارضة والموالية على السواء، بل والجماعات المستجدة المرتبطة بالغرب تحت عناوين “الأنجزة” ويافطاتها مع مستشاريها، على ترويج الحلول النظرية، التي تُوظّف لتسويقها جهود إعلامية وإعلانية ضخمة. بينما تستمر المشاكل في التناسل، ويتلوّع المواطن بنارها، فلا يتمتّع بالحلول والوصفات، التي يبتسم المسؤولون في حملات ترويجها، ويصرخون بابتهاج للمواطنين، الذين تأخذهم موجات الترويج، فيقضون أوقاتهم في سيرة وصفات تتعثّر مع اختبارهم لها في الحياة الواقعية، وتتكشّف عن تعقيدات للمشاكل بدلا من حلّها.

أولا: العقل السائد في النظام اللبناني هو عقل انكشاري، يعمل على الوصفات الافتراضية لحل المشاكل، وهي في الواقع لا تُختبر إلا في الدوائر الضيقة، ويُحرم منها الجمهور العريض المتروك لمستنقع المعاناة. وحيث تُحصر نعمة الحلول بالقادرين على الدفع، الذين يطلبون الترياق لدى شبكات التسويق الناشطة وفي القطاع الخاص. في حين لا تُتاح لهذا الجمهور تلك الوصفات المدفوعة الثمن.

الطبقية في المجتمع اللبناني تشمل جانبا مهما من التعامل مع الأوبئة والأمراض السارية، مع كلّ احترامنا وتقديرنا لنشاط وزارة الصحة وأجهزتها الطبية، ولما يقدّمه القطاع الاستشفائي العام من خدمات لا تعتمد التمييز الطبقي بين اللبنانيين، بل تشمل الجميع دون تمييز. لكن الواضح، مؤخرا ومنذ البداية في موضوع مكافحة كورونا، أن التمييز الطبقي حاضر ومستفحل، رغم شيوع الخدمة العامة على يد وزارة الصحة وأجهزتها.

ثانيا: إذا أجرينا دراسة إحصائية على دوائر المتابعة والعناية الوقائية والعلاجية في مقاومة الوباء، نجد أن هناك تمييزا طبقيا بين اللبنانيين. فالخدمات المدفوعة تشمل الشرائح الاجتماعية العليا. بينما تعتمد الأرياف وجموع فقراء المدن على خدمات وزارة الصحة، التي تعيش اختناقا خطيرا في الإمكانات، وتنعكس عليها مشاكل شحّ الموارد العامة للدولة ومؤسساتها. ولا يمكن لأي متابع جدي إنكار حقيقة أن خدمات القطاع الاستشفائي الحكومي هي الأساس في التعامل مع الجائحة والأمراض السارية، رغم أن هذا القطاع مظلوم ومخنوق، ومنكّل به منذ عقود، خصوصا في سنوات الانتفاخ النيوليبرالي، التي دُمّر فيها مفهوم الخدمة العامة، ووُضعت مؤسسات الدولة وإمكاناتها في خدمة القطاع الخاص، الى أن جاءت الكوارث الصحية والاجتماعية بعد الانهيار لتقول للبنانيين: تبّت أيديكم، التي دمّرت مفهوم الخدمة العامة.

الحقيقة التي تثبتها التجربة أن العقلية التي تفاخرت بها الشرائح النيو ليبرالية منذ العهد الإعماري بعد الحرب، هي عقلية مدمّرة وفاسدة، وتكشّفت عن خطر كارثي يهدّد الحياة الإنسانية. وتجربة كورونا هي الدليل. ففي مجابهة الأوبئة السارية لا تفيد الأسوار الطبقية في الحماية أمام خطر التفشّي، ومنطق الدولة الراعية، هو الذي يمكن أن يحمي المجتمع من أخطار الأوبئة القاتلة. وهذا يعني أن الدولة الوطنية المسؤولة عن توجيه المواطنين وتثقيفهم ورعاية أوضاعهم الصحية وتقديم الأدوية والعلاجات وتنظيم المرافق الاستشفائية الشاملة، هي ضمانة السلامة الصحية للأفراد جميعا. وهذا ما تثبته التجارب في كل أنحاء العالم. فحيث تتوافر الدول الراعية والمؤسسات الصحية العامة وأنظمة الرعاية المجتمعية لم تفلح الأوبئة في التفشّي، وأمكن حصر الخسائر والحدّ من أذى انعكاسها الاقتصادي والمجتمعي. وهذا درس لجميع الشعوب، يؤكد على أهمية فكرة الدولة الراعية.

ثالثا: لقد أثبتت معضلة الأوبئة المستجدة في جميع دول العالم أهمية وجدوى فكرة الدولة الراعية. وحيث تواجد هذا النموذج من الدول، أمكن حصر الأضرار والحدّ من الخسائر. فلا مجال للمقارنة بين النموذج الصيني والنماذج الغربية النيو ليبرالية، إذ تفكّكت بفعل فاعل أنظمة الرعاية، التي كانت قائمة في القرن الماضي لمنافسة الدعاية الاشتراكية وصدّ مفاعيلها لصالح الرأسمالية، التي ثبت بالتجربة مع الأوبئة مدى توحّشها وغربتها عن المنطق الإنساني، حيث تمثّل منظومة الرأسمال المهيمن وعقلية الربح التجاري القاعدة المطلقة المقدسة لدى الأنظمة الرأسمالية النيو ليبرالية، التي أرادت في بداية انتشار كورونا إبراء ذمّتها بمفهوم “مناعة القطيع” التي أودت بحياة الآلاف. في حين كانت النماذج المخالفة لأنظمة غير متوحشّة، تلعب فيها الدول دور الرعاية الصحية والمجتمعية، تقدم أمثولة يُعتدّ بها.

لقد سقطت الليبرالية الغربية في امتحان كورونا، وفي دول عظمى كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانياوإيطاليا وإسبانيا. في حين سطع نجم تجارب أخرى في دول كالصين، رغم كثافتها السكانية المرتفعة، بنظام محكم للوقاية والاحتواء، وللأبحاث العلمية الطبية، وبفاعلية قصوى في خدمة الحياة الإنسانية. في حين لا يمكن أن تُوصف النماذج الرأسمالية إلا بالتوحّش وافتقاد المعايير الإنسانية. فقد صُدمت شعوب دول الغرب بحقيقة أن مؤسسات وأجهزة تلك الدول، التي تتباهى بتحضّرها، قامت على تكوين غير إنساني، يعتمد الطبقية في التمييز بين البشر. وبرهنت الجائحة على أن الخدمات الصحية العامة والوقاية المفترضة ليست متاحة للعموم، بل خاضعة عمليا للتمييز الطبقي. وهذه محنة خطيرة للإنسانية، تطرح السؤال على أي باحث حول جدوى النموذج الرأسمالي القائم أمام تحدّي حماية الحياة الإنسانية من تهديد طبيعي كالوباء، بعدما دمّرت الرأسمالية الغربية ودعايتها مفهوم دولة الرعاية لصالح الشركات وتسليع كل أدوات الرعاية العامة وتحويلها الى مصادر لمراكمة الأرباح في صناديق وحسابات هذه الشركات، وعلى أنقاض الخدمة والمسؤولية العامة للدول، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى