بقلم غالب قنديل

من خارج المألوف والمستهلك

غالب قنديل

تطغى على يوميات اللبنانيين أخبار الاتصالات السياسية والتشكيلات الحكومية المحتملة، الى جانب الصعوبات الاقتصادية والمعيشية المتفاقمة، التي بلغت خطوطا غير مسبوقة، يقابلها الناس بحالة من الذهول والسلبية، بينما القوى السياسية منشغلة بأخبار التشكيلات الحكومية وتوزيع الحقائب وأسماء المرشحين للمناصب.

 

أولا: هموم المواطن العادي هي خارج الاهتمام السياسي أو الإعلامي، باستثناء ما يُنشر ويُبثّ من باب الاستعانة بمفردات التفجّع وشواهد الانهيار بتعظيم المأساة، فيما تغيب أيّ محاولة لإدارة نقاش وطني مستحق حول سبل الإنقاذ. فلا القوى السياسية مهتمة بهذا البند في جداول أعمالها المزدحمة بلوائح الحقائب والمناصب، ولا الأحزاب التي اعتادت تصدّر الحراكات الشعبية، أظهرت قدرة على مراجعة مسيرتها وحراكاتها السابقة لاستخراج الدروس واقتراح صيغ جديدة جديرة بانتزاع ثقة الناس وقيادتهم. أما جماعات الحراك فقد باتت في جلّها تشبه حلقات الذكر، وتجترّ أسطوانة مضجّرة تحتوي أيّ شيء إلا الأفكار والبرامج المتعلقة بحلّ المشاكل، التي تجيد التفجّع على نتائجها.

البلد ببساطة في دوامة قحط وعجز يستسلم لأزمة الشحّ الفكري، ويستعين بوصفاته القديمة دون أي فكرة جديدة، أو خطة عمل أو رؤية تفتح آفاقا للخلاص من خارج المألوف، في منظومة بُنيت على الهيمنة الخارجية والاقتصاد الريعي، وقام غلافها السياسي والإيديولوجي على الكذب والنفاق والأوهام المضلِّلة، الذي صنعه سماسرة خاضعون لهيمنة الغرب ومرتزقة جنّدتهم المخابرات الدولية لحسابها طيلة عقود، ليكونوا أدوات طيّعة في استعباد الشعب اللبناني وتمزيقه، لمنعه من التوحّد على خيار تحرّري.

ثانيا: الأكيد أن الوصفات المتداولة اليوم في كواليس تشكيل الحكومة وجميع الصالونات السياسية، تتمحور جميعها حول رهان إحياء النظام الريعي الخاضع للهيمنة، ولا تتقدّم بأي فكرة خلاقة وجديدة لإعادة البناء الوطني. وحتى بعض الأفكار التقليدية من خارج جعبة النموذج البائس، الذي دمّر فرص النمو الإنتاجي وأعدم الصناعة والزراعة فرص الحياة، يُفرض عليها حظرٌ مسبَق بفعل فاعل.

عملاء الغرب وسماسرة الخليج وخدّام النفط والشركات الأجنبية هم النخبة التي تشكّلت في العقود الأربعة الماضية، وباتت تُحكِم قبضتها على كل شيء، وفي صلبها سماسرة حروب وتجار سلاح وأكفان، يريدون تجديد فرص نهشهم لما تبقّى من ثروات محتملة في بلدهم المنهوب، ولصالح الشركات القابضة، التي هم عبيدها وأدواتها المخلصة منذ عقود. ولذلك تجنّدوا لقطع الطريق على كل خيار وطني تحرّري، واعترضوا فرص تنمية الإنتاج الزراعي أو الصناعي، وخرّبوا أي احتمال لشراكات لبنانية مع سورية أو مع إيران، لأن ذلك يعني إفلاته من براثن الهيمنة اللصوصية الغربية، ومن ابتزاز عملاء الغرب في المنطقة من حكومات الخليج وغيرها.

ثالثا: ليس الدافع الى هذا التركيز الغربي على تدمير فرص نهوض لبنان بدور جديد في المنطقة هو الخشية من منافسته للمنتجات الغربية، بل الخوف الكبير من أن يكون دور لبنان الجديد رافعة تعزّز فرص تبلور تكتّل شرقي تحرّري معادٍ للهيمنة، يضم إيران وسورية ولبنان، وهذا ما يلقي الغرب بكل ثقله لمنعه وسدّ الطرق أمامه. كما هو يعترض سبل نهوض سورية، مستبقا مخاطر ما ستمثُله بفضل تحالفاتها وقدراتها الذاتية كقوة اقتصادية وعسكرية صاعدة في الشرق، تشكّل ضلعا رئيسيا يمتدّ حتى إيران وروسيا والصين. وهذا بذاته سيكون حاسما في صياغة مستقبل التوازنات والمعادلات الكبرى اقتصاديا وسياسيا، بل وعسكريا في مستقبل المنطقة والعالم. 

ما يجري هو مخاض معادلات كبرى سوف تتحكم في العقود المقبلة، وهذا ما ينبغي أن يكون حاضرا في أي معاينة لبنانية لخيارات المستقبل، الذي يبدو اليوم حالكا في سواده بعد الانهيار المتفاقم الذي وقع، وكذلك في ظل المشاريع المعدّة داخل غرف التخطيط اللصوصي الدولية بقيادة الولايات المتحدة.

رابعا: إن مقاومة مشاريع الغرب هي الطريق للتحرّر الوطني ولامتلاك الفرص الجدية، التي تتيح إعادة البناء على أسس جديدة تلبّي طموحات الشباب اللبناني، الذي تحكم عليه القوى المهيمنة بالإحباط، وتستنزف طاقاته الحيّة بدلا من تعبئة صفوفه لالتقاط الفرص التاريخية المتوافرة على أرض الوطن وفي المحيط القومي الشقيق، وبالذات في سورية والعراق، والشراكات المتاحة مع دول الشرق الصاعدة، ولا سيما إيران والصين وروسا.

هذه العناوين التي نبسطها ونطرحها ونلحّ عليها ما تزال خارج التداول والاهتمام الذي تستحقه، لأن النخب المفكرة مشغولة بإدمانها للمياومة، وتلهث خلف الوصفات البالية والتقليدية، ولا تمتلك جرأة الابتكار والتحدّي، الذي يستحق لبنانُ أن نخوضه بشجاعة، بعيدا عن منطق الإذعان والخضوع للعصابات اللصوصية المسيطرة على العالم وأسواقه، والتي تنهب دول العالم الثالث، وبلدنا من مساكين هذا العالم المنهوبين والمغصوبين والخاضعين أحيانا بمحض إراداتهم.

تبقى كلمة نؤكد عليها، وهي أن التحرّر الفكري والثقافي هو أول الطريق لتحرّر حقيقي، أكان سياسيا أم اقتصاديا، والباقي تفاصيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى