بقلم غالب قنديل

كسر الحلقة المفرغة والتغيير المنشود

غالب قنديل

قد لا تكون للأفكار التي نبشّر بها شعبية كافية في صفوف النخبة التي أفسدتها الريوع، والتي يبدو واضحا أنها تفضّل المخارج السهلة، وتعوّل من جديد على إعادة رهن البلد للديون، مع قيودٍ، ستكون أشدَّ خنقا لفرص النمو، لأن المرابين الدوليين في الغرب يقتنصون الفرص السانحة في الدول المعيوبة اقتصاديا وسياسيا لرهن إرادتها على حساب السيادة الوطنية والخيارات الوطنية الحرّة والسيادية اقتصاديا وسياسيا. وهذا حال جميع الدول التي وقعت في براثن عصابة الربا الدولي في الغرب. ولا يفيد الإنكار ولا مساحيق التجميل في تخليص صورة الغرب الاستعماري من هذه اللطخة المشينة، التي لا يفيد في نفيها أيّ خطاب منمّق عن دعم جهود دولنا المتخلّفة للتخلّص من أعبائها الثقيلة.

 

أولا: إن المراوحة في عقلية الرهان على “المساعدة الغربية” المغلّفة بأكاذيب كثيرة، ما زالت هي جوهر الخطاب اللبناني في التعامل مع المأزق الاقتصادي والمالي، الذي بلغ درجة شديدة الخطورة. ولا شكّ أن دول الغرب، سواء الولايات المتحدة أم فرنسا أم الاتحاد الأوروبي مجتمعا، تعتبر اللحظة الراهنة سانحة لا تُّعوّض لتكبيل المقاومة اللبنانية وحرمانها من عناصر القوة عبر استغلال المأزق الاقتصادي والمالي لرهن لبنان لآجال طويلة مقبلة.

وعندما يتعلّق الأمر بلعبة المصالح الدولية، يجب أن نلقي جانبا في سلال المهملات جميع الخطب المعسولة، التي ينتجها النفاق الغربي المعتاد. وعلينا أن نتذكر دائما أدوار الغرب المتعاقبة ومواقفه المسمومة الداعمة للحروب الصهيونية التي دمّرت لبنان، كما علينا ألا ننسى أن غزوة التكفير المتوحشّة، التي تمثل تهديدا جديا لعشرات الدول وللغرب نفسه، كانت من إنتاج الغرب الاستعماري، ومن أدواته لإخضاع الدول العاصية. وعلينا أن نتذكر أيضا، أن هذا الغرب كان وما يزال يدعم بكلّ قوته وبكلّ ما يستطيع العدوانية الصهيونية وأطماعها، التي يدمجها واقعيا بخططه للهيمنة اللصوصية ولنهب بلداننا.

ثانيا: إن جميع التجارب تثبت أن ميزان القوى هو الحاكم في علاقة بلداننا بالغرب، وليست سذاجة النوايا الحسنة التي يعوّل عليها البعض. ومن يقرأ التاريخ القريب أو البعيد يخلص الى هذه العبرة، ويستنتج أن الضمانة في العلاقة مع دول الغرب الاستعماري هي معادلات القوة، وأول مصادرها هو بناء الإرادة المستقلة والحرّة، واعتماد توجّه استقلالي يراكم عناصر القوة، ومهما كانت الصعوبات والتضحيات، فهذا الطريق، طريق الاستقلال والمقاومة، هو الذي يحمي مصالح الدول والشعوب، وليس الاستسلام لأطماع الغرب ولخططه المبنية على السعي الى الهيمنة اللصوصية وإعدام فرص النمو المستقل لبلداننا وشعوبنا في العالم الثالث، الذي ننتمي اليه، مع عدم اعتبارنا لثقافة “العنطزة” اللبنانية الفارغة.

إن مصالح لبنان القريبة والبعيدة تقتضي محاربة الأوهام حول أي مساعدة غربية لتجاوز الأزمة، والتدقيق في كلّ عرض يقدّمه الغرب بعقلية الشكّ في النوايا والأهداف، نظرا للماضي الاستعماري الذي خبرناه، ولمحاولات الهيمنة وتدمير فرص النمو المستقل، التي تؤسس لشبكة المصالح الحقيقية والشراكات الحرّة والمتكافئة المرتبطة بها. وكل تفكير خارج هذا المنطق سيبقى كسيحا عاجزا خارج الموضوع الأصلي الناشئ عن تحديات إعادة البناء الوطني، وتخطّي حالة الخراب الخطير، التي يترنّح فيها لبنان المهدّد بأزمة نضوب للثروة، ستكون كلفتها متعاظمة كلما تقدّم بها الزمن.

ثالثا: من غير رؤية لبنانية جديدة للشراكات الدولية والإقليمية وللفرص الوطنية والقومية المتاحة، لا يمكن التقدّم بخطة لإعادة البناء تنقل البلد الى وضع جديد. وللأسف أدمنت الحكومات المتعاقبة خلال الأعوام الأخيرة على هدر الوقت، وعلى التلاعب بعواطف الناس وأفكارهم ومشاعرهم، وأهدرت بذلك فرصا متلاحقة لبلورة خطة وطنية لإعادة البناء، هي حجر الزاوية في أيّ سعي إنقاذي.

إن إحياء موارد الثروة في بلد تآكله الخراب وأغرقه الركود، يجب أن يكون الهدف المركزي لأي تخطيط اقتصادي رشيد. وهذا يفترض التخلي عن أوهام استرجاع زمن البحبوحة الخدماتية، التي يحنّ اليها اللبنانيون. فحجم الديون التي تغرق لبنان وطبيعة التحديات التي يستدعيها العمل لإنهاض الاقتصاد، تفترض إعادة صياغة الأولويات، ووضع الخطط الوطنية بعيدا عن الطرق السهلة، التي يأنس بها المقامرون بمستقبل البلد ويسلكون دروبها. إن الانتظار المتواصل في أندية القمار الدولية، والغرق في لعبة الاستدانة بعيدا عن أي خطط جدية لإعادة البناء الوطني على أساس الصناعة والزراعة والتشبيك مع الشركاء الطبيعيين للبنان من الدول العربية ومن دول المنطقة، سيكون مضيعة للوقت وللجهد بدون أي طائل، وحاصله مزيد من الغرق.

رابعا: ليس استنهاض الاقتصاد اللبناني بعد الكارثة مهمة مستحيلة، لكنه مهمة صعبة تحتاج الى الإبداع والابتكار، وقبل كلّ شيء، الى إرادة وطنية استقلالية بعيدة كليا عن ذهنية السمسرة والعمولات التي تمثّل عصب عقل النخبة اللبنانية المركنتيلية، التي مثّلها بجدارة الكومبرادور اللبناني ومعظم الساسة الذين تعاقبوا على السلطة، وبكل أسف، فإن أصحاب النوايا الحسنة ما زالوا محجمين، يترددون في تبنّي رؤية جديدة تطرح نفسها لدفع لبنان الى مصاف الدول النامية المتقدمة بدل اجترار التجارب الفاشلة والبائسة في حلقة التبعية والخضوع للهيمنة الغربية ولصوصيتها الفاجرة.

إن الفرصة الفعلية التي يجب أن يلتفت اليها اللبنانيون، وبالذات من يزعمون علاقة بالفكر الاقتصادي، هي إمكانية إعادة النظر بمقومات البناء الاقتصادي الوطني ودور لبنان في المنطقة برؤية جديدة واستشرافية ترتبط بالإنتاج والتنمية، وتُطوّر رؤية جديدة لوظيفة الخدمات في الاقتصاد الوطني، وهذا أمر مستحيل في أي مشاريع أو خطط تتمحور على استعادة أدوار الخدمات اللبنانية التابعة، بدلا من إنهاض الإنتاج والاعتماد على القطاعات الجديدة، التي يبرع فيها اللبنانيون، وكذلك من خلال شراكات تحكمها إرادة الاستقلال والتحرّر، وباختيار شركاء أحرار غير خاضعين للهيمنة كسورية وإيران. والتمعّن في هذا الطريق يكشف لمن يحاول علميا فرصا عديدة لا تُعوّض وإمكانات هائلة لا حصر لها. والشراكة بين لبنان وهذين البلدين الشقيقين، أي سورية وإيران، هي شراكة سياسية تحرّرية، كما هي أيضا، لمن يدرس علميا، ولمن يفهم بدقة، فرصة لقيام تكتّل اقتصادي مشرقي يحتوي المصالح اللبنانية، وينمّي دورا إقليميا قياديا لبلدنا، لا تتيحه جميع الوصفات المبنية على الخضوع لهيمنة الغرب اللصوصية. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى