بقلم غالب قنديل

التطرّف والعنف يهدّدان لبنان فمن ينتبه؟

غالب قنديل

لا يبدو أن الجماعات السياسية اللبنانية تتعلّم من تجاربها، ولا يبدو أن جميع أدبيات النفاق والتدليس وأشعار الوحدة الوطنية تكفي لتخطّي حدود النفاق والتكاذب الطائفي من اجل تأسيس إرادة مشتركة واحدة تطلق مسار بناء وطني جديد.

 

أولا: تتجدّد مظاهر الانقسام والاحتقان الطائفي والمذهبي على جميع مفاصل الحياة السياسية، وتشتدّ وتعلو وتائرها اضطرادا، كما يعلو صوت التطرّف والتصادم على جميع الأصوات العاقلة والرصينة المتمسّكة بمظاهر الوحدة الوطنية والإرادة المشتركة في العيش معا. وبكل أسف إن جميع مفردات الإعلام اللبناني الفالت من أي ضبط أو ربط، وخارج أي قانون أو تنظيم وُضع بعد الطائف لتكريس الوحدة الوطنية، هي مشروع فتنة متجدّدة تُعلي أدبيات الإنقسام وثقافة الاحتراب الداخلي وتطعن الإنتماء الوطني والهوية الوطنية، التي يُفترض أنه تمّ التفاهم عليها بعد الطائف، الذي كان صيغة افتراضية لإنهاء الحرب الأهلية وطواحين الدم، التي أغرقت البلاد بحصادها لسنوات بكل آلامها وخرابها وكوارثها.

ثانيا: يبدو البلد في كل يوم، ومع كل أزمة جديدة أو خلاف مستجدّ مثل كومة قشّ جاهزة للاشتعال، مشحونا بعناصر التصادم والاحتراب، وأهله منقسمون مختلفون في جميع عناوين الهوية والانتماء وطرق العيش معا، بينما انكفأت مشاريع الجمع الوطني واندحرت فكرة الدولة، التي لم يبق منها سوى الهياكل والعناوين، باستثناء مؤسسة الجيش الوطني وهيكل الجامعة اللبنانية الوطنية المظلومة، والتي تمّ تهميشها ونحرها لحساب الجامعات الخاصة، وعلى حساب فكرة التعليم العام، الذي هو حقّ بديهي في المجتمعات المعاصرة، وفي بلد يزداد فقرا ويتكاثر فيه الفقراء وتشتدّ الحاجة الى دولة وطنية تؤمّن الحاجات الأساسية المتعارف عليها في العالم المعاصر كبديهيات وكحقوق تأسيسية ترتبط بالمواطنة، تؤمّنها الدول، كالتعليم والطبابة والنقل والسكن، وهذه بديهيات تمّ نسفها في لبنان بقوة الإندفاع المتوحّش لرأسمالية طفيلية تابعة للغرب دمّرت ركائز الإنتاج والتنمية، وأغرقت المجتمع في عالم الريوع وتقاليده وبنيته المفاهيمية غير المنتجة. ومنه تولّدت الثقافة السائدة، التي يعيش ويحتمي بها منطقُ التكيّف مع التركيبة السياسية التابعة للغرب ومجموعاته الطفيلية المعادية لكلّ إنتاج أو تنمية.

ثالثا: يؤجّل اللبنانيون أي نقاش جدي في فكرة إعادة بناء البلد ومنظومته الاقتصادية الاجتماعية، وينصرفون الى معارك التقاسم التي يأخذهم فيها وقودا طاقم الزعماء والقوى، الذي كان على الدوام جاهزا لإحياء خنادق الإنقسام والاحتراب الداخلي والعصبيات الحاضرة في كلّ شاردة وواردة، تتعلق بإدارة الشأن العام. ولا يبدو في نهاية النفق المتجدّد أي شعاع ضوء، بل إن الشعاع الوحيد الذي مثّلته المقاومة في الحياة الوطنية يتعرّض لمحاولات خنق متجدّدة بالعصبيات الطائفية واستقطابها المتخلّف والمتوحّش لمشروع حرب أهلية متجدّدة. وقد ثبت بالتجربة أن ما قام بعد الطائف من فسحات سلم أهلي وانتظام للحياة الوطنية في مناخات من الأمن والاستقرار، يعود فضله الى القوة السورية، التي تخطّت بثقلها قدرة القوى الأهلية المحلية وفرضت عليها الانصياع لقواعد المساكنة والشراكة الوطنية بالإخضاع، وبهوامش منظّمة للمصالح المشتركة، كانت جميعها تحت الرعاية السورية المباشرة. ويحق لأي باحث أن يطرح السؤال مجدّدا عن قابلية اللبنانيين ومدى نضجهم لإنتاج إراد وطنية مشتركة، هم مُجبرون على بلورتها بفعل تحديات العيش والوجود، التي تطارد يومياتهم في زمن انهيار شامل لوهم الازدهار الخادع، الذي عاشوا فيه بقوة الريوع، ومع تخريب نظامهم السياسي لفرص التنمية والإنتاج الوطني، التي نُسفت عن بكرة أبيها وخُنقت حتى اليوم.

رابعا: رغم فداحة المأساة، بل المآسي الاجتماعية وطغيان العصبيات الطائفية على الواقع السياسي والشعبي ما تزال المقاومة بصمودها وقدراتها المتعاظمة بارقة الأمل الباقية في هذا الخراب الكبير، الذي يقوم على دورة تآكل متجدّد رغم الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي ومفرداته الخانقة.

إن هذا الواقع يفرض تفكيرا شجاعا بمبادرات وطنية نهضوية تتخطى المألوف والدّارج من أنماط العمل السياسي، الذي تعلكه صالونات التفاهة اللبنانية الدائرة في فلك عصبيات التقاسم والارتهان للخارج. فما يحتاجة البلد اليوم هو مشروع نهضوي بشجاعة المقاومة وبقوة اندفاعها، يحيي الأمل عند الشباب بإعادة البناء الوطني على أسس جديدة بعيدا عن الطائفية وعصبياتها، ويردّ الاعتبار لفكرة الدولة الوطنية، التي كانت المقاومة وما تزال هي القوة الوحيدة التي تعبّر عنها كمشروع، انطلاقا من بعدها السيادي والاستقلالي ومما تعبّر عنه في الحياة الوطنية من إرادة تحرّر. ويقينا إن تعليب المقاومة في عصبية طائفية أو مناطقية يحرمها من بعدها الوطني العميق والشامل، الذي يجعل منها بارقة أمل واستنهاض لإرادة الشباب الذي يحلم بوطن جديد وبدولة جديدة في مستوى الطموحات والأحلام غير المستحيلة إذا توافرت الإراد. وقد برهن هذا الوطن الصغير أنه قادر على تحدّي المستحيل حين أنتج مقاومة كسرت وهم الجبروت الصهيوني، وقدّمت من شبابها الشهداء بالآلاف، وبذلت التضحيات دفاعا عن الوطن وعن الشعب، وهي الجديرة بأن تكون المرتكز الحاسم في بناء إرادة وطنية وإعادة البناء الوطني على أسس جديدة.

نتوجّه بنداء للنقاش الجدي حول وصفة الخلاص من مستنقع التفتّت والتآكل المفتوح على بوابات خراب عظيم لجميع قوى الخطّ الوطني، المطالَبة ببلور إرادة مشتركة إنقاذية، تنهي وخم التعفّن والتفكّك والانحلال، لتنهض بقوة هجومية تقلب الصفحة وتضرب موعدا مع غد جديد. ونعني بذلك التيار الوطني الحر وحركة أمل وحزب الله وتيار المردو الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الديمقراطي وسائر الأحزاب الوطنية والتقدّمية بجميع مشاربها وعقائدها وهذه القوى مسؤولة ومطالبة بالمبادرة إلى الحوار حول كيفية التحوّل إلى جبهة وطنية موحدة ببرنامج خلاص وطني هو مشروع الإنقاذ من دوامة تشتد مخاطرها وترتفع أكلافها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى