بقلم غالب قنديل

ميادين المنافسة العالمية بعد كورونا

غالب قنديل

الرغبوية والانطباعية نزعتان سطحيتان وساذجتان تحاصران بالاستعجال أي محاولة علمية لمواكبة وفهم الأحداث والتحولات التي يشهدها العالم بينما يتحصن جميع الكتاب العقلانيين من جميع الاتجاهات والمواقع بتحفظ شديد على منطق تحويل جائحة كورونا إلى منعطف نوعي في الاستقطاب العالمي سياسيا واقتصاديا وافتراض قدرتها على حسم مصير المنافسة والصراع بين القوى العظمى  بناء على ما اظهرته التجربة في مختلف النماذج الاقتصادية والسياسية القائمة وما يمكن ان يبنى على تلك المظاهر من استنتاجات بشأن الصراع المحتدم على الأسواق والموارد على سطح الكرة الأرضية وفي باطنها.

 

اولا مما لاشك فيه ان تفشي الوباء شكل تهديدا فرض على جميع الحكومات في العالم وقف النشاط الاقتصادي لفترة قد تطول او تقصر واتخاذ تدابير التباعد الاجتماعي على أوسع نطاق وهذا ما وضع حركة الإنتاج والأسواق والنشاط التجاري والمالي في حالة ضعف أقرب إلى الصفر أحيانا في كل مكان من العالم باستثناء ما استمر بالعمل من الفروع الاقتصادية بفعل ارتكازه على طرق العمل عن بعد بواسطة شبكة الأنترنت إضافة إلى الأنشطة الاقتصادية التي تكيفت مع شروط الحماية والوقاية لتواصل الإنتاج والبيع وهذا يشمل السلع الأوسع رواجا والأكثر ضرورة كالمواد الغذائية  والوقود الذي انخفض استهلاكه عالميا وما استجد عليه الطلب الهستيري من السلع وبات ملحا في ظل كورونا من ادوات الوقاية والمنظفات والأدوية التي روج لها على نطاق واسع باحتمال فاعليتها غير المثبتة علميا بينما تواصل المختبرات العالمية عملها في البحث عن علاج ولقاح للفيروس المستجد وهنا تدور رحى التنافس الطاحن بين الشركات الكبرى والدول التي تدخل المباريات التي تستقطب اهتماما عالميا متزايدا بحيث تتيح جنسية المكتشفين والمصنعين الأوائل لدولهم مكانة متقدمة في الوجدان الكوني وفي اقتصاده أيضا.

ثانيا بكل تأكيد كشفت محنة كورونا عيوبا كثيرة في الأنظمة السياسية والاقتصادية القائمة في الغرب وبرهنت على مزايا أنظمة اخرى منافسة لها في العالم وتتميز بمقاومتها للهيمنة الأميركية وللواقع الطاغي الذي فرضته في العلاقات الدولية منذ ثلاثين عاما والذي أضعف صيغ التعاون البناء بين الدول والحكومات في مواجهة مخاطر كبرى بيئية ووبائية وغيرها من الكوارث الشاملة كموجة احترار القشرة الأرضية نتيجة التلوث الصناعي وتخريب جيولوجيا الكوكب في البحث عن موارد جديدة للطاقة بتقنيات مدمرة للبيئة كالتكسير الصخري وقد برهنت النتائج الظاهرة من اختبار كورونا حتى اليوم على هشاشة النموذج النيوليبرالي الغربي فأكدت المؤكد عن توحشه ومجافاته للقيم الإنسانية لكن هذا الكسب الثقافي لأنصار النماذج المنافسة بطبعاتها الرأسمالية والاشتراكية على السواء لا يحسم الصراع الفعلي والطاحن الذي يعيشه العالم بل إنه يسجل بالنقاط  وفي المستوى الثقافي فحسب تقدما لدول الرعاية الإجتماعية التي كانت أشد فاعلية في محاصرة الوباء والوقاية منه لكن الصراع سجال ومن المبكر البت في مآلاته القادمة فهو بحكم طبيعته لا تحسمه الثقافة وحدها.

ثالثا من المهم الالتفات إلى وجه آخرللصراع العالمي يصاحب الفشل الداخلي لحكومة الولايات المتحدة في احتواء كورونا كنموذج لإخفاق النيوليبرالية وهو أن هذه القوة الاقتصادية العالمية العظمى ترمي بثقلها  راهنا لاستغلال الكارثة من خلال ما توظفه من قدرات في البحث عن لقاح وعلاج لتحتفظ بهيمنة شركاتها الاحتكارية الضخمة على أسواق عالمية واعدة سواء سوق الأدوية أو اللقاحات أم سوق الرقابة الإكترونية الشاملة على السكان وتطوير شبكات الاتصالات الرقمية وتقنياتها الذكية ومنظومات الهويات البيولوجية الرقمية بذريعة الوقاية من الأوبئة ويجري دمج هذه التقنية بنماذج البطاقات الحرارية وجوازات السفرالتي عممها الأميركيون وسوقوها في العالم بذريعة مكافحة الإرهاب منذ 11أيلول 2001 وبالتالي ستسود في مستقبل قريب نماذج جديدة للهويات تحمل المؤشرات البيولوجية والصحية للأفراد إلى جانب المعلومات الأمنية وخرائط الحركة والاتصال وسوف يضاف الاعتبار الصحي إلى الاعتبار الأمني وتضفى عليه عوامل الحصانة الأخلاقية والوطنية لتطوير منظومات الرقابة الشاملة في جميع بلدان العالم وعبر الكرة الأرضية.

رابعا لم تزحزح الجائحة التفوق الأميركي المستمر في صناعة البرمجيات والمعلوماتية والهيمنة الأميركية شبه الكلية على شبكة الأنترنت العالمية رغم المنافسة الصينية القاسية خلال العقود الأخيرة وقيام الشبكات الوطنية المنفصلة والمتصلة جزئيا التي تعتمدها دول كروسيا والصين وإيران وكوبا وكوريا الشمالية والظرف العالمي الجديد سوف يحفز تحريك استثمارات اميركية ضخمة في منصات التسويق الإلكترنية وتقنيات الإدارة الإلكترونية للشركات والمعامل وكذلك في العمليات المالية والمصرفية المواكبة للتجارة الإكترونية وهذا بذاته مجال تلاقي فيه الولايات المتحدة منافسة صعبة ومكلفة لكنها ما تزال في المقدمة عالميا وسيكون على منافسيها بذل جهود كبيرة مضاعفة لمعادلة قدراتها ناهيك عن زحزحة سيطرتها وما يتوه عنه المستعجلون في هذا الجدل هو ان معركة كورونا لم تقض على التشابك الاقتصادي والمالي الصيني الأميركي ولم تعدل في قواعد عمل الأمم المتحدة وفقا لما ينادي به القادة الصينيون والروس والإيرانيون والكوبيون مع العديد من قادة حركات التحرر في العالم بل إن مثل هذا الهدف لم يتحول حتى الساعة إلى غاية سياسية هجومية تسعى تلك القوى العالمية الحرة لفرضها رغم ان ما يشهده العالم وما تشهد به تفاعلات كورونا يؤكد نظريا الحاجة لقيام نظام عالمي متعدد الأقطاب يحقق التعاون الدولي المتوازن على انقاض الهيمنة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى