بقلم غالب قنديل

مؤشرات لما بعد الوباء

غالب قنديل

ركزت التعليقات والدراسات العالمية التي تناولت نتائج ودروس تفشي وباء كورونا على مجموعة من المؤشرات المستخرجة من طريقة تعامل الدول والحكومات مع هذا التهديد على خلفية الخيارات الاجتماعية والاقتصادية التي تعكسها نماذج متعددة ومتنافسة للنظم القائمة في عالم اليوم.

 

بقدر ما ظهر نمط التباعد الاجتماعي طريقا آمنا للعيش يحفظ السلامة الشخصية ويمنع تفشي الوباء فإن التحدي الوبائي فرض اولويات اقتصادية وسياسية ترسخ الطابع الاجتماعي للنظم القائمة ولايمكن الاستجابة لها بالفردانية العقائدية التي عمت العالم خلال العقود الماضية وهذا التناقض المتجدد بين العام والخاص يولد تداعيات ومؤشرات سيكون لها أثركبير اقتصاديا واجتماعيا في المرحلة المقبلة.

اولا توسعت مساحة التواصل الرقمي اقتصاديا واجتماعيا وفي ظروف الشلل الاقتصادي الواسع استمرت النشاطات الإقتصادية الرقمية المرتبطة بالأنترنت بينما شرعت في التكيف مع شروط التباعد انظمة التعليم والإنتاج والرقابة الصحية بل حتى داخل المعامل والمنشآت الصناعية التي واصلت عملها مع شروط الوقاية المشددة للحد من مخاطر انتشار العدوى وهو ما سوف يؤسس لأنماط ونماذج  جديدة من العلاقات كما سيتحكم بصعود انشطة اقتصادية تتقدم اليوم وتؤكد حضورها واهميتها كاستثمار في حماية البشرية كصناعة الادوية ومعامل تجهيزات الوقاية الشخصية التي لا غرابة في احتمال إدخالها إلى مصنفات تصميم الأزياء كالكمامات والأقنعة والثياب الواقية من الفيروسات كما تظهر اهمية المختبرات الطبية ومراكز أبحاث علوم الأوبئة وبقدر ما تؤشر تجربة الدول المختلفة مع الوباء  إلى احتلال الصحة العامة صدارة الاهتمام الشعبي وأهمية انظمة الرعاية فإن كفة توزيع الاستثمارات الرأسمالية والحكومية سوف تظهر بعد الوباء تعديلا هيكليا كبيرا على الأرجح بينما تقدمت الرعاية الصحية والاجتماعية إلى مقدمة التحديات السياسية في وجه جميع الدول والحكومات والأحزاب والشركات بعدما هدمت النيوليبرالية صروحها وحقرت قيمتها خلال العقود الثلاثة الماضية بالذات.

ثانيا  سوف يتقدم العمل على تطوير الاقتصاد الرقمي وشبكات الاتصال الرقمية المحلية والعالمية كحاجة اقتصادية ومالية بما في ذلك طرق الدفع والتوقيع وابرام الصفقات وتعميم القرارات عن بعد الذي بات حاجة شاملة خلال المعركة ضد الوباء ستسود وتتقدم بعده بحيث يتم تطوير انماط الإدارة الاقتصادية والمالية ولذلك تغدو الشبكات السريعة وسعاتها المرتفعة حاجة وطنية ملحة لجميع البلدان وضرورة للتجارة العالمية وهذا ما سيعزز صراعا عالميا وتنافسا ضاريا حول الأجيال الجديدة من التقنيات الرقمية وشبكات الاتصال والتطبيقات الإلكترونية متعددة الوسائط خلال السنوات المقبلة وهو ما سمي قبل كورونا بمعركة الجيل الخامس التي فتحت على مصراعيها عمليا وربما تؤسس لظهور اجيال رقمية جديدة بأسرع مما نتوقع.

ثالثا برزت في مجابهة الوباء فكرتان وحاجتان لحماية الوجود الإنساني المهدد هما الرعاية الصحية والاجتماعية على صعيد الدول الوطنية وحكوماتها بوصفها واجبا والتزاما سوف يتركز الانفاق عليه خلال العقود القادمة بعدما دمرته النيوليبرالية وتمت تصفيته بموجات الخصخصة التي اكتسحت معظم دول العالم خلال الثلاثين عاما المنصرمة وكذلك برزت قيمة التعاون الدولي العابر للحدود والقوميات والأنظمة في مجابهة اخطار شاملة محتملة قد تهدد البشرية بأسرها وهذا ما سوف يقتحم بعد كورونا جداول اعمال الحكومات والدول والحركات السياسية في العالم بجميع بلدانه وانظمته وبجميع مستويات تطوره الاقتصادي المتفاوت في ظل الهيمنة الاستعمارية الغربية وصراع الأقطاب الكبار بعدما نجح منافسو الإمبراطورية الأميركية والمتمردون على مشيئتها في تقديم نموذجهم الخاص والناجح بالاستجابة للتحدي على الصعيدين  الوطني والعالمي ومن المبكر الاستعجال في تقدير آفاق هذه المنافسة واحتمالاتها.

رابعا  قبل عشرين عاما وبعد تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك ظهرت الرقابة الرقمية على تحركات الأفراد بالتزامن مع تفشي التهديد الإرهابي وشغلت متابعة المكالمات الهاتفية ورصد مواقع التواصل الاجتماعي حيزا من اهتمام الحكومات واجهزة الاستخبارات في العالم وتم تطوير برمجيات لفك الرموز ورصد التفاعلات الرقمية في بناء افتراضي لدوائر التهديد والخطر الأمني انطلاقا من تردد عبارات وكلمات مفتاحية ومن رصد البصمات الصوتية وتقنيات التعرف عليها وبعد الوباء باتت الرقابة الرقمية أشد أهمية بوصفها من مكونات منظومة الحماية الصحية وتتبدى كحاجة وطنية وعالمية للوقاية من الأوبئة ولمنع تفشي العدوى من أي جائحة اخرى محتملة وسوف يستخدم هذا البعد في تبرير المزيد من انظمة الرقابة الأمنية على المعارضين بينما يتزايد الاستثمار في تحويل الهواتف الرقمية الذكية إلى اداة رصد للمؤشرات البيولوجية للمستخدم وقد جرى استخدام تقنيات التواصل الرقمي في الصين وغيرها لرصد حركة المصابين المكتشفين والحد من مخاطر انتقالهم واحتكاكهم بأشخاص أصحاء قد ينقلون إليهم العدوى وسوف تظهر في المستقبل وبالتاكيد  انظمة أشد فاعلية وأوسع وأشمل مما هو متاح راهنا للرقابة الإلكترونية على انشطة وتحركات الأفراد بوصفها ضرورة صحية لمنع انتشار الأوبئة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى