بقلم غالب قنديل

السودان ومحنة ضحايا الثورات الملونة

غالب قنديل

الخطوات السودانية العاجلة نحو الارتماء في الحضن الأميركي الصهيوني قدمت صورة عن جوهر المآل المرسوم لثورة نظمت عنها القصائد والأغاني ودبجت مقالات ودراسات مطولة عن الغضب الشعبي الذي اطاح بالسلطة السياسية السابقة تحت شعارات محاربة الفساد ونشر الحوكمة وتحديث الدولة وإقامة الحقوق المتساوية بين النساء والرجال وغير ذلك من مصنفات الخطاب السياسي الذي اجتمعت حوله النقابات المهنية وقوى اليسار وتنظيم الأخوان وسائر حشود الناشطين في المنظمات غير الحكومية.

 

أولا لم يبدل التغيير السياسي شيئا في شروط عيش السودانيين بينما جرى إحلال مجموعات جديدة في السلطة بعضها من اطقم النظام السابق وأسندت إليها قيادة التحول “الديمقراطي” الذي يؤول لتاكيد الهيمنة الأميركية وتوسيع نطاق التطبيع مع الكيان الصهيوني الساعي منذ امد بعيد إلى ضم السودان لمواقع نفوذه في القارة الأفريقية وداخل الوطن العربي بعدما كان قوة فاعلة وحاسمة في تمزيق وحدة السودان ودعم حركات الانفصال التي مزقت نسيج الشعب ووحدة الأرض السودانية بالبناء على تطوير التمايزات الداخلية العرقية والدينية وتحويلها إلى تناقضات هوياتية تناحرية وحروب دامية يسرت مهمة اختراق الغرب الاستعماري لنسيج المجتمع الأهلي ولسائر القوى السياسية السودانية انطلاقا من ازمة الجنوب المزمنة.

ثانيا استثمر المخططون الأميركيون  في بناء وتكوين مرتكزات الثورة الملونة وأدواتها من خلال وسائلهم الدعائية وشبكاتهم المطورة لاستمالة الشباب تحت شعارات الحداثة والمساواة بين الجنسين والحوكمة والتدريب على الديمقراطية وقد استقطبت تلك الشعارات الملايين المتعطشة للتخلص من آلامها ومعاناتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الناتجة فعليا عن تغول النهب الاستعماري وعن العقوبات المشددة التي تحاصر السودان من سنوات طويلة وما خلفته من نتائج فاقمها فعل التقسيم والاقتتال في الجسد السوداني .

تلك الأدوات نفسها استعملت  سابقا لتطويع حكم  البشير وإلقائه في الحضن السعودي القطري وتفكيك علاقته بإيران والقضاء على دور نسب إليه في ضمان انتقال السلاح إلى المقاومة في قطاع غزة.

ثالثا لم تمهل واشنطن السلطة الجديدة التي توجت انتفاضة شعبية تم ركوبها واستخدامها بإتقان شديد في تجديد الهيمنة فالإمبراطورية مستعجلة لإحكام قبضتها السياسية والاقتصادية على البلاد والهدف هو ضم السودان على توقيت صفقة القرن إلى حكومات التطبيع مع العدو الصهيوني واعتماده ضمن نطاق النفوذ الصهيوني في أفريقيا حيث يدور على مدى القارة سباق عسير ومكلف بين كيان العدو وحلفه الأميركي الغربي من جهة وكل من روسيا والصين وإيران والمطلوب ان يتم تثبيت الموقع الصهيوني الأميركي في السودان مقابل التطور النوعي في القوة اليمنية التي تنذر بانتصارها بنشوء قوة إقليمية جديدة وهامة في وزنها وثقلها وموقعها الاستراتيجي لمعسكر التحرر من الهيمنة ولمحور المقاومة العربي الإيراني.

رابعا العبرة السودانية تستدعي القراءة والدراسة وتعميم النتاج  في صفوف الشباب العربي الذي تصيبه خيبة شديدة من مآلات الثورات الملونة التي اجتاحت ساحات العديد من العواصم العربية في السنوات الأخيرة وقد انضم إليها الشباب الساخط بنوايا طيبة وبحثا عن التخلص من مشاكل البطالة والتهميش وغيرها من وجوه المعاناة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

النموذج السوداني يفيض بالدروس واهمها ان جميع حركات التغيير التي لا تنطلق من فكرة التحرر الوطني والتخلص من نير الهيمنة والتي لا تحمل هوية قومية تحررية واضحة والتزاما بوحدة الصراع ضد المنظومة الاستعمارية الصهيونية الرجعية التي تفرض سيطرتها على الوطن العربي هي تشكيلات قاصرة وقابلة للتوظيف في تجديد الهيمنة والنهب والسيطرة على الثروات والأسواق وبالتالي تعميق المعاناة وتوسيع نطاق المآسي ومفاقمتها.

خامسا إن مشاركة اليساريين في ركاب تلك الحركات هي مشاركة التحاقية تتحصن بالدفاع عن تعبيرات الرفض العفوي للواقع القائم وتمارس طقوس تقديس العفوية لتلتحق بركاب منظومة يقودها الغرب بشعارات مضللة واهية والعطب الحاسم في ذلك هو ان القوى اليسارية العربية القائمة بما فيها الأحزاب الشيوعية مستلبة في قشرة الوهم التغييري تائهة عن التناقض الرئيسي الذي هو بين الشعوب والمستعمر بين الأمة العربية وناهبي ثرواتها وخيراتها ومغتصبي حقوقها والتجربة التاريخية تبرهن مجددا على وحدة الصراع في المنطقة بأسرها شاء من شاء وأبى من أبى وعلى حقيقة ان الوحدة القومية هي النطاق التاريخي للتطور والتقدم الفعلي في البلاد العربية وقضية فلسطين ليست تفصيلا فنيا طالما تبرهن الوقائع على دور “إسرائيل” الرئيسي  في حماية وتكريس النهب اللصوصي والتجزئة وهي خبرة سودانية متجددة.

سادسا  لم يتحرك الشباب السوداني من اجل حكومة تقصد واشنطن لتطبق دفتر الشروط الأميركي مقابل رفع العقوبات او تخفيفها ولا من اجل سلطة تضم بلدهم إلى منظومة الحكومات الرجعية التابعة ولا من اجل حكومة تمارس التطبيع مع العدو وتقدم له التسهيلات في غزوه لأفريقيا ونهبه لأسواقها ومواردها وتاريخ شعبنا في السودان حافل بالوقفات الوطنية والقومية الخالدة إلى جانب حركة التحرر والمقاومة ..

تنقشع وتتلاشى في الخرطوم هيصة الديمقراطية والحوكمة وحقوق الإنسان عن حقيقة أن تغيير شروط العيش مشروط بالتحرر من الهيمنة الاستعمارية وهو القاعدة التي تنطلق بها إعادة البناء الوطني وتوظيف الثروات الوطنية في إقامة اقتصاد منتج يوظف قدراته وعائداته لحماية إرادة الاستقلال ويقيم شراكات قومية مع جواره العربي ومع الجوار القاري وما خلاف ذلك إلا تأبيد لمهلكة فظيعة ومؤلمة ومهزلة خداع وكذب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى