بقلم غالب قنديل

الهلوسة واللعب بالنار

غالب قنديل

ظهرت يوم امس جثة الانتفاضة المخطوفة في شوارع بيروت وعلى طرقات الجنوب والبقاع والشمال التي قطعتها مجموعات حراكية خلعت العباءة الفضفاضة لـ”الثورة” التي أضاف إليها البعض لقب “العامية” وفي عجقة المتزاحمين على موقع الصدارة لركوبها حتى بعد اختطافها المنجز بخطب افتراضية عن الوحدة الوطنية وعن الوعي الشعبي رغم الإعلان المذهبي والخطاب المذهبي وانكشاف أدوار الائتلاف الحريري الجنبلاطي الجعجعي والكتائبي في أجنحة حراكية متعددة.

 

أشهرت أمس الجموع الصغيرة المتنقلة هويتها الطائفية والسياسية فتوارت بيانات الثورة وإعلانات تخطي الطوائف والعصبيات لتطفو شعارات التمسك بالحريري وكيل الشتائم لرئيس الحكومة المكلف إلى جانب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ووزير الخارجية وطافت المنابر الإعلامية بمصنفات البذاءة وبقذارة وشناعة الإسفاف والتحدي في أفظع اغتيال للأعراف المهنية ولتقاليد العمل الإعلامي ناهيك عن قانون المرئي والمسموع القتيل.

في هذا التوقيت وجه الحزب الشيوعي اللبناني نداءه  “لاستمرار الانتفاضة ولتجذيرها” موحيا كالعادة بأن الأحداث جاءت لتثبت صحة وجهة نظره منذ اللحظة الأولى لانفجار الغضب الشعبي ومنذ إقامة خيمه في ساحات بيروت والنبطية وصور أما منابر الحراك الإعلامية فقد واصلت وصف قطاع الطرق بالثوار والمعتصمين والمنتفضين وتعامت لساعات طويلة عن كون رشقهم لقوات الجيش والأمن الداخلي بالحجارة اعتداءات سافرة وشغبا منظما يهدد الأمن الوطني والسلم الأهلي وأن الهواء المفتوح لرعاع الشتامين والمحرضين المذهبيين يؤجج المشاعر ويحشر البلد في حال توتر وتشنج وانقسام قد يتحول إلى صدام كبير وخطير.

إنه اللعب بالنار على حافة الهاوية وهو يهدد بانفلات حلقة ردود الفعل وسط هياج المشاعر واحتقانها وفي ظل التصرفات العدائية التي تورط فيها كثيرون من مواقع متعددة بينما لم تطمس الروائح الكريهة حملات توزيع الزهور على حواجز الجيش ووحداته المنتشرة والمعتدى عليها أو على خطوط التماس بعد جولات مقامرة مفضوحة بتعريض البلد لخطر الحرب الأهلية عبر إطلاق شعارات واستفزازات مذهبية لم يبذل أي مسعى سياسي جدي لمنعها ولجمها رغم كثرة الاستنكارات وجميع القيادات المعنية لم تجد أنها مسؤولة أومعنية فعليا بمنع الفتنة وفضلت اتهام مندسين مجهولين لم يبذل أي كان أي جهد في الكشف عنهم وفضحهم بكل أسف رغم ما أزهق حتى اليوم من أرواح بريئة.

حالة الفراغ المقصود في مؤسسات السلطة السياسية ومنذ استقالة الرئيس الحريري تحت الضغط الأميركي اوقعت قيادتي الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي في كماشة ابتزازمنظمة شاركت فيها تحذيرات السفارة الأميركية وتصريحات موفدي الإدارة الأميركية وآخرهم السفير ديفيد هيل الذي تحاشى تكرار الإملاءات والشروط واكتفى بإسداء النصائح الداعية إلى التعقل وإنتاج الحلول وبالتشديد على حرية “المتظاهرين” الذين قطعوا الطرقات خلال جولته على المقرات الرسمية والسعي إلى تلبية مطالبهم الملحة وكلام عمومي عن التعاون الأميركي اللبناني من غير أي وعود مالية او اقتصادية.

تصاعدت وتائر معارك الشوارع والساحات باعتداءات منظمة على الجنود والعسكريين الذين اكتفوا احيانا بقنابل الدخان وهم يحتمون بتروسهم من هطل الحجارة وتباطأوا في التحرك لفتح الطرقات ومحاولة إبعاد الزمر الموتورة التي تحركها اوامر حزبية صادرة عن غرف عمليات لم تواجه أي تحقيق قضائي او امني او مساءلة او حتى أي لوم اخلاقي ووطني تفرضه المقامرة بالسلم الأهلي.

تهربت المنابر الإعلامية الحراكية من تسمية تيار المستقبل رغم تصريحات المتورطين في الشتائم والتحريض الفتنوي عن هوياتهم وولاءاتهم المكشوفة خلافا لما فعلته عندما ألصقت الانتماء لحركة امل ولحزب الله بكل من شاغبوا في مرات سابقة.

ظلت تلك الوسائل تطرق على مسامع المشاهدين والمستعمين بطناجر الحراك وتتصيد التوقيت المناسب لبعثات التغطية التي تحولت إلى نقاط جذب واستدعاء للتجمهر وترداد الهتافات المعلبة ومعها رشة الشتائم والنفايات المتكررة التي ظهر حراكيون يبررونها ويدعون لتعميمها كسلوك يزعمون انه صاحب جميع ثورات العالم والحقيقة أن تلك “الجميع” المزعومة  محصورة ببعض الثورات الملونة التي قادها الأميركيون من الخلف لتجديد الهيمنة على البلدان المستهدفة بخطط النهب اللصوصي فشيطنوا خصومهم وعهروهم بكل اللغات والوسائل المتاحة.

مرارا نزل المشاغبون إلى الطرقات العامة فأحرقوا الدواليب وقطعوا حركة المرور داخل المدن وبين المناطق وكانت الحصيلة أمس مزيدا من الاستفزاز والقهر لملايين اللبنانيين الذين احتجزوا في سياراتهم لساعات طويلة ومنعوا من الوصول إلى أماكن عملهم ومن نقل البضائع أو من العودة إلى بيوتهم فكظموا غيظهم وصبروا رغم بشاعة الاستفزاز وهذا ما كان مثاله البليغ مشهد آلاف السيارات المتوقفة على أتوستراد الجنوب الذي قطعه محازبو وأنصار تيار المستقبل جهارا في منطقة الساحل.

ساعات البث المتواصل باتت كناية عن ضغط تحريضي تراكمي والاستفزازات التي تحاصر الملايين وتمس أرزاقهم وأعصابهم وثير انفعالاتهم هي عوامل تراكمية لاستثارة غضب جماعي قد تنفجر تعبيراته الأشد فجاجة وشراسة بعنف المعاناة وبقسوة التدابير القهرية المفروضة في أي وقت تفقد فيه قوى الضبط والربط قدرتها على التحكم بالغضب الشعبي الذي لا يمكن ان تعصمه إلى ما لانهاية جميع دعوات الصبروالتحمل فمن قوانين الطبيعة أن يقابل كل فعل برد فعل يوازيه ويعادله في طبيعته وقوته التلقائية خصوصا في غياب الخطاب الوطني القادر على التصدي للعصبيات بوعي المصالح المشتركة وببرنامج وطني لتوحيد اللبنانيين حول صيغة للخلاص من النموذج الريعي وآفاته ومظالمه وعفنه وللتحرر من الهيمنة الاستعمارية.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى