بقلم غالب قنديل

مسارالهبة الشعبية ومحاولات خطفها

غالب قنديل

انفجر الغضب الشعبي في لبنان وفاضت الساحات بجمهور أثاره توجه لزيادة الرسوم على الهاتف الخلوي والبنزين بذريعة معالجة العجز في الموازنة بينما كانت تتبدى مؤشرات خطيرة حول الوضع النقدي والمالي ولدت موجة من الذعر في الأسواق وحركت موجة إضرابات مست المحروقات والرغيف وبينما كان حاكم مصرف لبنان ينكر وجود أزمة في توافر القطع الأجنبي لفتح اعتمادات الاستيراد عاد واتخذ تحت الضغط تدابير مالية وتسهيلات لتحاشي انقطاع المواد الضرورية بسبب توقف المستوردين عن استقدامها من الخارج وظهرت حكومة الرئيس الحريري مسايرة لضغط الاحتكارات التجارية التي تمسكت بهوامش أرباحها المتضخمة فطلبت من حاكم الصرف تأمين المطلوب لفتح الاعتمادات بينما تكرس وجود سعرين لصرف الدولار.

 

كان رسم الوزير محمد شقير المقترح على الواتس آب بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير ويمكن ملاحظة مجموعة من الملامح في هبة الغضب الشعبي التي استقطبت الشباب الساخط إلى الساحات والشوارع نتيجة البطالة وانعدام فرص العمل وبفعل ارتفاع تكاليف المعيشة بصورة مرهقة بعد خطوات انكماشية وضغوط كان في مقدمتها الإذعان للعقوبات الأميركية التي قادت لتصفية بنكين في بضعة سنوات وحدت من تدفق تحويلات اللبنانيين في الخارج التي تأثرت أصلا بالركود العالمي.

أولا سارعت مجموعة من وسائل الإعلام إلى مواكبة التحركات الشعبية الغاضبة بهوائها المفتوح وآلتها التحريضية لتحميل الجموع شعارات سياسية عامة بعيدا عن أي مطلب اقتصادي او اجتماعي محدد وذهبت هذه الجوقة الإعلامية في إطلاق موجة هادرة من التحريض والتعبئة بعناوين مستعارة من موجة “الربيع العربي” مثل “إسقاط النظام” و” كلن يعني كلن” و”إرحلوا ” والدعوة لاستقالة الرؤساء والحكومة مجتمعة والنواب ومحاولة شيطنة المقاومة وتحميلها تبعة الأزمة .

ثانيا ظهر في فترات النقل المباشر استهداف مقصود لرموز حليفة للمقاومة في بعض التعبيرات الشارعية وقد اتاحت الوسائل الإعلامية نفسها ساعات طويلة ومتواصلة من النقل المباشر للسباب والشتائم والمفردات البذيئة التي استهدفت الرئيس ميشال عون ووزير الخارجية جبران باسيل ورئيس مجلس النواب نبيه بري وخلت تلك الحملات التي يفترض ان دافعها الضيق المعيشي ورفض الفساد من أي ذكر لوزيرالمستقبل محمد شقير صاحب اقتراح رسم الواتس آب او حتى رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة رئيس كتلة المستقبل النيابية والصانع الرئيسي لسياسة الرسوم والضرائب في جميع حكومات الرئيس الراحل رفيق الحريري والذي ارتبط اسمه بملف مليارات الدولارات الضائعة من حسابات المالية العامة او السيدين جنبلاط وجعجع ولهما مآثر مالية واقتصادية كثيرة في الحرب وبعدها.

ثالثا سيطر الارتباك السياسي على سائر اطراف السلطة السياسية امام طوفان الساحات وبدا في مقدمة القوى التي عبرت عن اتجاه واضح لركوب الموجة كل من القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي من خلال مواقف سياسية معلنة عكست توجها لتحويل النقمة إلى تزخيم شعار سياسي محدد هو إسقاط عهد الرئيس ميشال عون وقد رفعت القوات من درجة استثمار الظرف الجديد في استقالة وزرائها بينما أبدى السيد وليد جنبلاط ترددا في الاستقالة وربط قراره بموقف رئيس الحكومة خصوصا بعد عبارة قائد المقاومة عمن يريدون القفز في لحظة حرجة بعد ثلاثين عاما من مراكمة مغانم الشراكة في السلطة وفي صياغة خياراتها الاقتصادية المسؤولة عن الأزمة الراهنة.

رابعا تحركت قيادة المقاومة في هذا المناخ المشحون فكانت كلمة السيد حسن نصرالله إطارا لتوجه سياسي يواكب الغضب الشعبي ويبني عليه عبر دفع الحكومة ورئيسها إلى التخلي عن مبدأ سن ضرائب ورسوم جديدة تطال الفئات الفقيرة ومحدودي الدخل وعبر فرض تمويل العجز من أرباح المصارف وموجودات المصرف المركزي وهو ما كان مرفوضا بشدة في السابق.

خامسا شدد السيد نصرالله على تنبيه الغاضبين من وجود من يريد ركب تحركهم للزج بهم  وقودا في معركة لا تخدم ما انتفضوا من اجله وقدم في خطابه ردودا واقعية على شعارات عالية السقف انتشرت في الساحات بفعل مدروس من نوع إسقاط النظام وإقالة الحكومة محذرا من احتمالات الفراغ والفوضى مع اعتباره بعد ورقة رئيس الحكومة ان الهبة الشعبية حققت إنجازات أهمها التراجع عن سن الضرائب الجديدة.

سادسا سقطت الأقنعة من خلال ما شهده اليوم السابع من التحرك الشعبي عبرتنظيم القوات اللبنانية والتقدمي الاشتراكي لاعتصامات محلية قطعت الطرق وتوجهت إليها الكاميرات لتصنع حدثا منفصلا عن ساحات التجمع في العاصمة ولتجاهر بشعاراتها الخاصة والسافرة بل واحيانا لاستحضار صور الحرب الأهلية البائسة كما جرى على تقاطع الشيفروليه في فرن الشباك وفي ذوق مكايل وبدا واضحا ان تقطيع اوصال المناطق والتلويح بصدام مع الجيش حال تحركه لفتح الطرق استجابة للمطالبات النقابية والشعبية هو الخطوة التالية التي يلاقيها الهمس الأميركي  الهادف للجم القيادة العسكرية وترك يدها مرفوعة كليا بينما ظهر عدد من مهندسي التدخل في الحراك يدعون لمزيد من الاعتصامات المتفرقة على الطرق العامة بذريعة تحويل التحرك إلى عصيان.

سابعا من الواضح ان السلطة السياسية بدت منكفئة ومترددة في مجابهة ما يجري بينما الساعون إلى استثمار التحركات لتحقيق انقلاب سياسي هم في وضعية هجومية ومناورة مستمرة ويطرح السؤال عن وجهة التصرف المطلوب من القوى الوطنية التي يفترض بها التركيز في مجابهة الأزمة على إسقاط الوصاية الأميركية والتوجه شرقا ومواكبة ثورة الغضب الشعبي بشعارات تجسد هذا التوجه وتتضمن إجراءات عملية حول الانتقال من النظام الريعي التابع للهيمنة إلى اقتصاد وطني منتج عبر تدابير جذرية داعمة للصناعة والزراعة والسياحة وعدم الاكتفاء بالتدابير الخجولة التي تضمنتها ورقة رئيس الحكومة.

ثامنا إن الدعوة العاجلة لاتخاذ قرار حاسم بفتح الطرق وحفظ الأمن وحماية حق الجماهير في التظاهر والتجمع في الساحات هي ضرورة لمنع الفوضى ولإحباط خطط التفجير الامني التي ظهرت بوادرها في اكثر من منطقة لبنانية نتيجة سلوكيات استفزازية متعمدة واحتكاكات مفتعلة  في سياق التحركات التي جرفت جموعا غاضبة كثيرة.

تاسعا من الضروري الانتباه إلى عدم الانجراف خلف عفوية تسعى للتحكم بتوجيهها قوى محددة تريد النيل من المقاومة ومن حلفائها وهي تنفذ الثأر الأميركي ممن ساهموا بعد الغارة الصهيونية على الضاحية في تأكيد حق الرد الدفاعي الذي اعتبر تغطية دستورية واضحة لعملية الردع التي نفذتها المقاومة دفاعا عن البلد ومنعت  عودة الاستنزاف الصهيوني المفتوح بنتائجه الأمنية والاقتصادية والسياسية والثأر الأميركي يتجسد باستهداف الرئيسين عون وبري وبالضغط المباشر على رئيس الحكومة لدفعه إلى الاستقالة ويعبر مطلب حكومة التكنوقراط الذي انتشر بكثافة بعدما طرحه كل من جعجع وجنبلاط انقلابا سياسيا على المعادلة التي فرضت التراجع الأميركي السعودي عن رفض مشاركة حزب الله في الحكومة قبل سنوات عند تشكيل حكومة الرئيس سلام والثمرة السياسية المقترحة لهذه الهبة وفق الخيار الأميركي السعودي هي إبعاد المقاومة  مجددا عن معادلة السلطة السياسية بتغطية حكومة التكنوقراط  وإضعاف حليفيها الأقرب حركة امل والتيار الوطني الحر واسترجاع الرئيس سعد الحريري إلى حلف 14 آذار.

عاشرا إن مهمة الوطنيين المنتمين إلى حلف المقاومة هي مواكبة الغضب الشعبي باحترام عميق لمشاعر الغاضبين وبتفهم دوافعهم وعدم استخدام تعبير “تفهم المطالب” لأن الشعارات المرفوعة هي في الواقع مطالب سياسية تغطي انقلابا على الخيارات الكبرى والمطلوب امام الانفجار العفوي حماية الشباب الساخط من إحباط قادم شهدنا سوابق له في ساحات الربيع العربي عبر تكرار أسطوانة الفجيعة ” سرقوا الثورة ” فالسارقون في لبنان يدلون على انفسهم بسرعة ولم يستطيعوا الاختباء طويلا بسبب الإلحاح الأميركي أمام استحقاق الهروب من سورية.

إن القوى الوطنية مطالبة بأن  تقدم تصورا علميا لجذور الأزمة بما يكشف ارتباطها بالنموذج الريعي التابع للهيمنة الذي أقيم منذ التسعينيات وقام على التقاسم الطائفي للريوع المالية ودمر الإنتاج ووضع الاقتصاد الوطني في قبضة الوصاية الأميركية المجسدة بالخضوع للعقوبات التي تستهدف لبنان وحول المصرف المركزي إلى مخفر اميركي للوصاية وللتحكم بخناق الاقتصاد اللبناني وكذلك بفعل إدارة الظهر لفرص التوجه شرقا بناء على الشروط السياسية الأميركية المانعة لأي انفتاح اقتصادي جدي على سورية والعراق وإيران والصين وروسيا ومن الخلل المنهجي ان تواصل المقاومة وسائر الحلفاء ممارسة نهج سياسي خجول في التعامل مع هذا البعد الرئيسي والجوهري في الازمة ومساراتها تحت شعار عدم إحراج الرئيس الحريري او استفزاز الحلف الأميركي السعودي فمحاولة الانقلاب واقعة وجارية ولا يفيد معها أي حجب لحقيقة الخيارات التي تسهم في تعزيز فرص الإنقاذ الجدي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى