بقلم غالب قنديل

التخلف الرقمي ليس صدفة

غالب قنديل

شكلت خطة الانتقال إلى البث التلفزيوني الرقمي الأرضي التي أقرتها الحكومة اللبنانية في أيار عام 2012 مبادرة وطنية لاستلحاق الالتزام باتفاقية جنيف لعام 2006 حول البث الرقمي ونظم البث التلفزيوني الجديدة في العالم والتي تقرر نظريا الانتهاء من تطبيقها في السابع عشر من حزيران 2015 .

 

قرر مجلس الوزراء في حينه تشكيل لجنة كلفها باقتراح خطة الانتقال وبالفعل رفعت مشروعها إلى مجلس الوزراء ضمن المهلة المحددة وأقرت الخطة كما هي بتاريخ 14 تشرين الأول من عام 2012 وكانت اعتمادات التنفيذ مرصودة لدى وزارة الاتصالات كما صرح الوزير نقولا صحناوي آنذاك وكانت أفضل التقديرات لدى خبراء اللجنة انه يمكن الالتزام بمهلة الانتقال التي قررها الاتحاد الدولي للاتصالات في تاريخ 17 حزيران 2015 كحد أقصى.

عند وضع الخطة استشيرت جميع المؤسسات التلفزيونية التي أعطت موافقتها على تصورات اللجنة المشرفة واقتراحاتها وبدأت مفارقات العرقلة في التنفيذ بعدما انجزت اللجنة وضع الآليات التقنية واتفقت مع الاتحاد الدولي للاتصالات على رزمة الترددات اللبنانية اللازمة لبناء شبكة رقمية أرضية موحدة للبث التلفزيوني وجرى ذلك بالاشتراك مع خبراء الاتحاد الدولي الذين حضروا إلى لبنان وفقا للمعايير المعمول بها دوليا وبما يحمي حقوق لبنان وشملت التغييرات وانظمة البث المقترحة في الخطة ترددات مستخدمة من قبل الجيش اللبناني والأمن العام اللبناني والأمن الداخلي لمواكبة التحول الرقمي ولمنع استباحة الحقوق السيادية اللبنانية ولتحصين الأمن اللبناني ضد أي اختراق محتمل واجرت لجنة الانتقال الرقمي الاتصالات وعمليات التنسيق اللازمة لذلك خارجيا وداخليا على الصعيدين الإداري والتقني وكانت مراسلات اللجنة معلقة بلا تجاوب او استجابة احيانا بفعل قصدي من مواقع في الإدارة تمثل مصالح غير حكومية واحيانا بقوة الفراغ الحكومي وفترات الانتقال السياسي المتكررة.

في سياق وضع الأسس العملية للانتقال إلى البث الرقمي الأرضي قامت اللجنة في اواخر العام 2014بتنظيم بث تجريبي تلفزيوني أرضي استخدمت فيه مواقع عائدة لتلفزيون لبنان وبعض مواقع التلفزيونات الخاصة وكانت الحصيلة إيجابية تماما فقد أثبتت البيانات التقنية للتجربة إمكان بث باقة القنوات اللبنانية رقميا على الشبكة الأرضية إلى مناطق في بيروت الكبرى والبقاع والجنوب والشمال وشكلت نموذجا اختباريا للشبكة الوطنية الرقمية المنوي إنشاؤها وفقا لقرار مجلس الوزراء.

عند هذه النقطة وبعدما انجزت اللجنة المكلفة بالإشراف على تنفيذ الخطة دفتر الشروط الخاص بتجهيز الشبكة الرقمية الوطنية للبث التلفزيوني بات المطلوب هو تنظيم استدراج العروض وتحديد الجهة المشرفة على المناقصة الدولية ورصد الاعتمادات وقامت اللجنة طيلة الفترة اللاحقة بمتابعة الاتصال والمراجعة لاستكمال التنفيذ الذي لم توضع مستلزماته القانونية والإدارية والمالية بتصرفها بل إن مجلس الوزراء لم يكن قد حدد لأعضاء اللجنة تعويضاتهم فواصلوا العمل بمهمتهم حرصا على القيام بواجب انتدبوا له رغم تقصير الوزراء المعنيين والحكومات المتعاقبة وفي الحصيلة كان لبنان متخلفا عن إنجاز شبكته الرقمية الوطنية في العام 2017 عندما نوقش الملف في الاتحاد الدولي للاتصالات ومعه دول أفريقية وآسيوية فشملت المهلة الجديدة التي حدد الاتحاد نهايتها في السابع عشر من تموز الحالي وما يزال لبنان متخلفا أيضا وبصورة مخجلة.

لا شيء تحرك فلا الحكومة ناقشت الموضوع او الغت الخطة او حلت اللجنة المكلفة وشكلت لجنة جديدة ولا هي بحثت في تعديل اللجنة وخطتها لاستلحاق امر حيوي يتعلق بالقطاع الإعلامي ولفهم الخلفيات فالعرقلة ليست إهمالا عرضيا او نتيجة زحمة اولويات كثيرة في جداول الأعمال الحكومية.

علينا ان نسأل عن المصالح التي تحركت بقوة لتعطيل الخطة لتفرض الأمر الواقع في القطاع الرقمي الأرضي وهي تضم شركات تلفزيونية ومجموعات كابل منزلي ومصارف ورساميل خارجية تضع عينها على كعكة دسمة تقدر بمئات ملايين الدولارات وتريد استباحة حقوق المواطن وإلغاء أي دور للمؤسسات العامة ولضوابط استثمار المرفق العام وتكريس قبضتها الاحتكارية على قطاع البث الرقمي الأرضي لتفرض بعد ذلك الاعتراف الرسمي بما تنشئه من شبكات مصالح فيستصدر لها غطاء قانوني عكس جميع المعايير المعتمدة في جميع دول العالم وبدلا من التصميم على الشبكة الوطنية الرقمية بما يحقق إنقاذ التلفزيونات التي تشكو شح العائدات واقتراح صيغ لتوزيع عائدات الشبكة بما يشمل التلفزيونات اللبنانية المرخصة تمضي بعض المجموعات الإعلامية مع شركائها المحليين والأجانب لتكريس امر واقع خارج القانون مستفيدة من تعليق مصير الخطة لتكوين قطب احتكاري خاضع مسبقا لقيود واطماع تناقض السيادة الوطنية وملتزم علانية بالعقوبات الأميركية.

تشريع القرصنة وسرقة المرفق العام ونهب عائدات عامة مفترضة يحظى بتغطية العديد من القوى السياسية النافذة في البلد على حساب فرص المنافسة وحق المواطن في الاختيار وإلزام كل بث إعلامي بالتصرف كخدمة عامة عليها مسؤوليات اتجاه المجتمع والوطن وسيادته وفئاته الفقيرة والمهمشة ومناطقه النائية بدلا من إفلات وحش السوق لنهش الأخضر واليابس.

السؤال الذي لا جواب له هو لماذا مثلا لم يجري ضم الشبكة الوطنية الرقمية إلى سلة سيدر إن كانت المعضلة في تمويل إنشائها كما يدعي البعض وثمة شركات عالمية كبرى غربية وصينية وروسية وهندية تتحرك في السوق الرقمي العالمي وتعرض صيغا من التمويل القابل للاسترداد من العائدات والواضح تماما ان الاستسلام سيد الأحكام امام شبكة المصالح التي تراكمت بأفعال القرصنة والاستباحة خارج القانون وبات الاغراء الطاغي هو ان تخضع القواعد العامة لتلك المصالح الخاصة … منهجية لا مثيل لها في أي بلد آخر ولا يهتز رمش لأي كان عندها … يقال لنا احيانا بمرارة ابتسم انت في لبنان والأصح ان في الأمر ما يبكي على المال العام المهدور وأفق التقدم المغدور في متاهة نهب بلا حدود.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى