بقلم غالب قنديل

أحبط بري الفخ فذهب ساترفيلد ولم يعد

غالب قنديل

لن يكون مستغربا لو أصدر الرئيس نبيه بري بظرفه المعهود بيانا يعلن فيه عن السفير الأميركي ديفيد ساترفيلد بوصفه مفقودا على طريقة إعلانات المفقودين في الصحف اللبنانية “غادر ولم يعد” فمنذ الخامس من حزيران مضى أسبوعان وزعت خلالهما السفارة الأميركية في عوكر مواعيد متلاحقة لعودة المفاوض والوسيط المزعوم بالأجوبة المحددة التي طلبها رئيس المجلس النيابي باسم لبنان وبتفويض متفاهم عليه مع رئيسي الجمهورية والحكومة من حيث الشكل والمضمون لسد مسارب المناورة والتهرب امام الولايات المتحدة والكيان الصهيوني اللذين قيل عشية قدوم الديبلوماسي الأميركي انهما مستعجلان للتفاهم على ترسيم الخط البحري الذي يشكل امتدادا للخط الأزرق من وجهة النظر اللبنانية.

بعض التكهنات في بيروت تقول إن ارتباك ساترفيلد وعدم عودته مردهما تعيين خلف له هو أحد صقور المحافظين الجدد واللوبي الصهيوني ديفيد شينكر لكن الدبلوماسي “الغائب” ليس مختلفا بالكثير عن ذلك الرهط الدبلوماسي الأميركي المنحاز بكل قوة ووضوح إلى الكيان الصهيوني منذ عقود وقد خبر لبنان العديد منهم وعرف الرئيس نبيه بري معظمهم في حقب دقيقة ومفاصل حاسمة منذ الاجتياح الصهيوني            عام 1982 وبالذات بعد انتفاضة السادس من شباط 1984 وإسقاط اتفاق 17 أيار الذي سماه الأميركيون باسم وزير خارجيتهم الأسبق جورج شولتز.

الرئيس نبيه بري الذي قاد هذه المفاوضات هو الأكثر إلماما بتفاصيل الملف وساترفيلد كان السفير الأميركي في لبنان خلال التفاهم على الخط الأزرق بعد الهروب الصهيوني الكبير من الجنوب اللبناني وقد ظل في لبنان حتى السنة التالية وسلم السفارة لخلفه فنسينت باتل من بعده والذي خلفه جيفري فيلتمان لسنوات.

القصة بدأت برسائل أميركية عن مهمة مستعجلة لساترفيلد غايتها التوسط في تفاهم على بلوكات النفط والغاز البحرية الموازية للخط الأزرق وكان واضحا ان في خلفيات الاستعجال تجنب عقاب المقاومة على أي احتمال للسطو على حقوق لبنان وبالتالي تهديد صيغة الشراكة المتوسطية بين الكيان الصهيوني وعدد من دول الحوض في تنفيذ اتفاقية الأنابيب والتصدير المشترك التي جمعت مصر وقبرص واليونان وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية بقيادة إسرائيلية وبرعاية اميركية وحيث شكل منتدى غاز المتوسط الذي انبثقت عنه اتفاقية وقعت في القاهرة محطة مهمة في منصات التمهيد لما يسمى بصفقة القرن.

سبق ان افشل لبنان بشخص الرئيس بري محاولة اميركية لتمرير ما عرف بخط فرديريك هوف الدبلوماسي الذي سبق ساترفيلد في الوساطة وامضى ساعات في زيارات متلاحقة لعين التينة وقوبلت محاولاته لتسويق صيغ تمس حقوق لبنان وتخدم مصالح إسرائيل برفض وعناد تمت صياغتهما قانونيا وسياسيا بدهاء رئيس المجلس وبدبلوماسيته الصارمة عند اللزوم.

حاول ساترفيلد في مهمته التفاوضية وبمناورات متعددة ان يستدرج السلطة اللبنانية إلى قبول الفصل بين البر والبحر لتهريب فجوات من البلوكات المتنازع عليها تضع إسرائيل عيونها عليها لسلبها ثم نصب فخ التفاوض المباشر مع العدو بعد الإيحاء بقبول الشروط اللبنانية وبأن الباقي هو التفاوض على التفاصيل الذي يفضل ألا يكون بالواسطة لتحقيق نتائج سريعة لكن اللعبة أفشلت بأسئلة بري الدقيقة والمحددة.

فخ التفاوض المباشر الأميركي الصهيوني كان هدفا بذاته من حيث الشكل والمضمون في مواسم التطبيع التي ترعاها واشنطن في المنطقة والتي كانت ستحتفل بإنجاز ثمين لو وقع بلد المقاومة في الفخ وتم إحباط المحاولة المكشوفة بموقف حاسم قدمه بري بكل وضوح وصاغ به شروط وآليات التفاوض غير المباشر التي يقبلها لبنان مذكرا بآليات ترسيم الخط الأزرق على البر بعد الهروب الصهيوني إن كان الأميركيون والصهاينة جادين في استعجالهم للتفاهم.

خلال “غيبة ” ساترفيلد ورغم إغداق بخار الإيجابيات التي اوحت بها السفارة في عوكر لبعض مستكتبيها اللبنانيين صدرت تصريحات صهيونية تنسف كل الأوهام وتكشف عري الغطرسة الصهيونية واطماع العدو في البحر كما في البر فجدد الرئيس بري تأكيده على التمسك بكل إنش تراب وكوب ماء وفق عباراته الحاسمة التي هي ثمرة إجماع الحكم اللبناني الذي يستند موقفه الدبلوماسي إلى ما تملكه المقاومة المتلاحمة مع الجيش من قدرة ردع ومن احتضان وطني وشعبي رغم وجود أرتال لبنانية يتملكها الخنوع والإذعان لشروط الهيمنة وللهوان في التعامل مع العدو وحاضنه الأميركي الذي يمد بعض اللبنانيين بفواتير تمويل إثارة الكراهية ضد المقاومة.

جاءنا ساترفيلد وسيطا ينصب فخا للبنان وهاهو سيغادر منصبه بخفي حنين بعدما أسرته شباك رئيس المجلس النيابي المخضرم وصاحب الخبرة الطويلة والمحامي البارع في الدفاع عن مصالح بلاده وحقوقها الوطنية منذ صعود نجمه قبل اكثر من نصف قرن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى