بقلم غالب قنديل

ما هي الحقيقة المغيبة ؟

غالب قنديل

تتلاحق التهديدات والإنذارات التي يطلقها سياسيون وخبراء من خطر انهيار وشيك للإقتصاد اللبناني ويرفقها أصحابها بوصفاتهم بالحث على استعجال مجموعة القرارات الصعبة ورد في تصريحات للرئيس سعد الحريري وبينما تنشر الصحف اللبنانية تحذيرات اوروبية وأميركية في تقارير متعددة تطالب الحكومة اللبنانية بتنفيذ تعهداتها المتصلة بتقليص الإنفاق وخفض عجز المالية العامة بينما يشكو رجال الأعمال من الانكماش ومن شح السيولة المالية ويبدون تخوفا من التدابير الانكماشية كوقف قروض الإسكان المدعومة الذي جمد الأسواق العقارية وغيرها من الاجراءات التي يتخذها مصرف لبنان في السوق المالية ويلزم المصارف بتطبيقها في حين تشير بعض التنبؤات إلى موجة مرتقبة من العقوبات المصرفية والمالية الأميركية التي تفاقم حالة الانكماش.

يراهن الخبراء في الداخل والخارج على تحريك مشاريع أقرها مؤتمر سيدر ووعد بقروض لتمويلها لتحريك الأسواق ولضخ كمية من المال قد تنعش الدورة الاقتصادية المحلية التي يصيبها اليباس المتدرج من خلال دفعة من التلزيمات المتعلقة بإعادة تاهيل البنى التحتية التي يفترض التذكير بأن بعضها كان موضوعا لإنفاق مليارات من قروض مؤتمرات باريس السابقة خلال عهود حكومية متعاقبة كانت مخلصة لمعادلة التمويل بالاقتراض وهي مسؤولة عن مفاقمة العجز والدين العام طيلة العقود الثلاثة الماضية.

اللافت للانتباه انه بينما يتوتر اللبنانيون بحثا عن الفساد الذي صارت محاربته على كل لسان تقف امام ناظريهم مرافق وقطاعات أصابها الخراب وتعطلت وصرفت عليها المليارات ولم يتحدث احد عن فتح ملفاتها او التحقيق في واقعها وتعيين المسؤولية رغم صرف اموال طائلة والأمثلة بسيطة ومباشرة لا تحتاج تنقيبا ولكن ببساطة يمر خبر كمحطات تكرير الصرف الصحي الموجودة على الخرائط نظريا وفي بيانات الإنفاق لسنوات سابقة متعاقبة وهي لا تعمل وببساطة يستمر خبر الخلل في الكهرباء على صعيد طاقة الإنتاج وشبكات النقل وبكل صفاقة تبقى سكك الحديد معطلة ومشقفة تباع قطعها في مجمعات الخردة لأن احدا ما شاء إبقاء السيطرة لوكالات السيارات الأجنبية على قطاع النقل الخاص او المخصخص وإعدام النقل العام كفكرة.

هذا النظام الاقتصادي التابع للغرب الذي يتعفن أمام ناظرينا قام على ركيزتين هما تدمير مفهوم الخدمة العامة ودور الدولة في حده الأدنى المتعارف عليه اقتصاديا واجتماعيا وتم فرض نموذج رأسمالي تابع وفالت من أي ضوابط تحت شعار الحرية والليبرالية وتم ذلك باستنساخ نموذج نيوليبرالي أميركي تخلى عنه أصحابه بعد سنوات وفي موطنه تحت ضغط ازمات الانكماش والركود.

الخضوع للهيمنة والتبعية تجسد بعدم قيام أي شراكات اقتصادية جدية ومنتجة مع سورية التي لم تبادر إلى ذلك في ذروة سطوتها خوفا من استثارة الحساسيات اللبنانية المتأصلة منذ الانفصال الجمركي في خمسينيات القرن الماضي ولأنها خضعت لأسلوب القيادات اللبنانية في استخدام التحالف مع سورية لاستهداف من عارضوا النموذج الاقتصادي التابع الذي قام بعد الطائف بمن فيهم حلفاء رئيسيون لسورية وشركاء في خيار المقاومة والتحرر والاستقلال وفي ظل هذه المعادلة قامت شراكات اقتسام الريع على جانبي الحدود وانقلب المستفيدون منها على سورية بإشارة اميركية.

حذر سياسيون وخبراء كبار منذ العام 1992 من الخلل الخطير الذي تنطوي عليه معادلة الاستدانة لشراء الوقت عبر تجميد سعر الصرف ونبهوا من خطر تهميش قطاعات الإنتاج وتدمير فرص النمو الحقيقي للثروة الوطنية ونبهوا من اخطار الوصاية الأجنبية التي فرضت من خلال توصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووصفوا النهج الاقتصادي الريعي بحلقة لحس المبرد وقالوا إن النهاية في هذا المسار ستكون وخيمة ومكلفة.

ويمكن لمن يشاء الاطلاع على التفاصيل مراجعة محاضر جلسات مناقشة الموازنات الحكومية في مجلس النواب والعودة إلى أرشيف الصحف في التسعينيات للاطلاع على مقالات وتصريحات وخطابات لكل من الرئيسين سليم الحص وعمر كرامي والنواب زاهر الخطيب ونجاح واكيم وعصام نعمان وألبير منصور والوزيرين السابقين الدكتور الياس سابا والدكتور جورج قرم وغيرهم حشد من الكتاب والسياسيين والقادة النقابيين الذين كانوا كتلة اعتراض ثبت صواب منطقها ولكن اهملت تحذيراتها وتوصياتها وتم البطش بها والاستقواء عليها بكل الوسائل المتاحة.

لا داعي للمفاجاة إن تجمعت مؤشرات الكارثة فهناك من توقعوها وحذروا منها فحين ندرك الحقيقة التي يطمسها أصحاب وصفة المديونية المفتوحة وتدمير الإنتاج واستنزاف الدولة وتهميشها والتبعية للغرب يصبح كل شي متوقعا وبينما تسعى الطغمة التجارية والمالية إلى تحميل الطبقات الوسطى والفقيرة كلفة ما صنعته هي بالبلد من خراب من ضمن منظومة الريع والتبعية نفسها يصبح المطلوب بلورة الخيار البديل لتصحيح الاتجاه من خارج ما حوله النظام الإعماري الريعي التابع إلى مسلمات مطلقة يخضع لها الجميع .

الاستقلال عن منظومة الهيمنة وإنعاش قطاعات الإنتاج الوطني وحمايتها وإزالة آثار الخراب الذي احدثه النظام الريعي التابع في موارد الثروة المائية والبيئية والشراكات الإقليمية والدولية الجديدة والمتوازنة بدءا من سورية والعراق وإيران وروسيا والصين وتنشيط دور المرافق العامة ومؤسساتها وإصلاحها لا بيعها او تلزيمها للشركات الأجنبية والمحلية في جميع المجالات وإسقاط الوصايات الخارجية التي قامت على التبعية والاستلاب هي عناوين تتطلب ترجمتها إلى سياسات وتستدعي تحصينا للقرارات والتوجهات المتخذة انسجاما معها وعبثا سيدور لبنان في الحلقة المفرغة وبمزيد من النزف الخطير إلى ان يقع ذلك التغيير أيا كان شكل الوصول إليه وسيدفع الناس كلفة الزمن طالما هم ماضون بانسياقهم الأعمى خلف العصبيات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى