بقلم غالب قنديل

أوان التحرر من الوهم الأوروبي

غالب قنديل

لعقود طويلة شغل الرهان على التمايز الأوروبي عن الولايات المتحدة حيزا مهما من الثقافة السياسية الرائجة في العالم وخصوصا في البلاد العربية وعموما في العالم الثالث وكما هي الحال تتغذى الأوهام من عوامل موضوعية موجودة بالفعل وما أوحت به حركة المصالح والتناقضات العالمية بسورة تغذي افتراض قابلية أوروبا للعب دور منفصل عن الإمبراطورية الأميركية يفتح الطريق إلى التعددية القطبية ويكرس واقعا دوليا جديدا أكثر تحررا من قبضة الهيمنة الأميركية .

شكل الاشتباك الروسي الأميركي وخروج ترامب من معاهدة الاتفاق النووي الإيراني فرصة ثمينة لاختبار الخيارات الأوروبية فقد تم توفير حزمة من الحوافز الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية للثلاثي الأوروبي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا لتشجيع هذه الدول التي تمثل كتلة افتراضية لخيار الاستقلال الأوروبي عن المشيئة الأميركية وجاءت الحصيلة مخيبة للمراهنين وسقط كل هذا الحساب الافتراضي أمام الخضوع الأوروبي الكامل للقرار الأميركي.

هذا الخضوع ناتج عن هيمنة أميركية مالية وسياسية واستخباراتية مستمرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ونتيجة التكوين التاريخي للنخب التي تحكم البلدان الأوروبية الرئيسية في حضن الأخطبوط المالي الأميركي الصهيوني وقد شكلت تجربة الاتفاق النووي الإيراني مثالا لتصميم أوروبا على مواصلة اندماجها في منظومة الهيمنة الأميركية ولعبها دور الذيل التابع والملحق بالقرارات الأميركية السياسية والاقتصادية مهما كانت مغريات وحوافز الانفصال عن واشنطن التي عرضتها روسيا والصين وإيران خلال السنوات الأخيرة.

التجربة الأخرى التي تزامنت مع ملف العلاقة الأوروبية الإيرانية كانت العقوبات الأميركية على روسيا التي انصاعت لها اوروبا والتزمت بها على حساب مصالحها بحيث ان الدولة الأوروبية الأقوى اقتصاديا وهي ألمانيا نفذت ما املته عليها الولايات المتحدة على حساب استثمارات ألمانية ضخمة في روسيا قدرها الخبراء بخمسمئة مليار دولار وهي تراهن على تثبيت هيمنتها في أوروبا الشرقية والوسطى تحت الرعاية الأميركية ولمن يريد ان يفهم فألمانيا هي من يهيمن على اقتصاد الدول المستخدمة كمسرح لنشر الصواريخ النووية التي تهدد الأمن الروسي وتحتشد فيها قوات الناتو.

في التجربة الإيرانية والروسية جاءت الوقائع الصلبة لتشير إلى ان حكومات اوروبا أهدرت كل الفرص وانصاعت للمشيئة الأميركية وسخرت دورها الاقتصادي والسياسي لصالح الهيمنة الأميركية وقد كان ميدان الشرق العربي والملف السوري بالذات دليلا حاسما على انخراط اوروبي كامل وشرس في الحلف الاستعماري الصهيوني الرجعي الذي شن الحرب على سورية وهو يستهدفها بحصار اقتصادي شرس كما يستهدف إيران وقد ادار القادة الأوروبيون ظهورهم لكل احتمالات الحصاد الوفير من المصالح والاستثمارات والأرباح التي يمكن لبلدانهم وشركاتهم الظفر بها لو سلكوا طريقا آخر وأفلتوا من قبضة الولايات المتحدة.

هذه الحقيقة تشير إليها الوقائع الملموسة وهي تختبر في الشرق العربي مع مؤشر لا يقل خطورة عما سلف حيث يتصاعد النفوذ الصهيوني الكبير داخل أوروبا ويزداد تأثير اللوبيات الصهيونية الفاعل في صنع السياسات وتعيش النخب الأوروبية المالية والسياسية في كنف ماضيها الاستعماري العدواني وتضمر اطماعا كثيرا في حجم الفتات التافه الذي ألقت به الولايات المتحدة لشركائها الغربيين من منهبة الإمبراطورية الهائلة في بلد كالعراق.

يتحرك الأوروبيون من قلب منظومة الهيمنة الاستعمارية التي تقودها الولايات المتحدة ويمثل خضوعهم لها في زمن دونالد ترامب نموذجا حاسما للسلوك الخاضع والذليل في تبعيته والاختبار الروسي الصيني الإيراني الذي انتجته العقلانية الروسية الصينة الإيرانية ينتهي إلى الخيبة والفشل ويؤكد لشعوب الشرق ونخبه ان من العبث إضاعة الجهد في مزيد من الاختبارات المحكومة بطريق مسدود امام جدران الارتهان الغربية السميكة.

لقد فرضت إدارة ترامب عقوبات على أوروبا نفسها وكان خيار القادة الأوروبيين هو التكيف والمساومة مع واشنطن وقد وظفوا لتلك الغاية بعض خلجات الانفصال التي لم تلبث ان تراجعت لصالح الخنوع والصمت مما يشير إلى رسوخ الحلف الاستعماري بقيادته الأميركية الاقتصادية والمالية والعسكرية والأمنية كمنظومة لا تقبل تبايناتها وتعارضاتها المحتملة فرضية التحول إلى تناقضات تقود إلى وضعية جديدة بفعل تشعب أخطبوط المصالح والبنى المندمجة بسيطرة رأس المال المالي الأميركي الصهيوني منذ مشروع مارشال الذي أسس لقيام الكتلة الغربية الأطلسية وأمسك بمفاصلها.

المؤشرات الأخيرة التي حملتها المواقف البريطانية والفرنسية من اوضاع منطقتنا تؤكد هذه الحقيقة فالاعتراض الأوروبي على قرار ترامب سحب القوات الأميركية من سورية شكل السند الفعلي والمحفز لاعتراضات اميركية داخلية أدت إلى تكييف هذا القرار لصالح مواصلة العدوان والاحتلال والحاصل هو تصميم استعماري على استنزاف سورية وإطالة امد الحرب الاستعمارية التي تقودها الولايات المتحدة.

وفي السياق نفسه جاء القرار البريطاني ضد حزب الله تعبيرا عن الاستجابة لتوجيه الأميركي بتصعيد الضغوط السياسية ضد محور المقاومة الذي أفشل الغزوة الاستعمارية واحبط فصولها طيلة السنوات السابقة والتصميم الفرنسي والبريطاني على البقاء في الشرق السوري وتوجه الولايات المتحدة للحفاظ على تواجد مشارك لقوات العدوان البريطانية الفرنسية يضمر تطبيق خطة الجرح المفتوح التي اقترحها مخططو السياسات الأميركية بحيث يمكن لرأس الجسر الغربي العدواني المزمع إبقاؤه في قاعدة التنف ومناطق اخرى في شرق سورية ان يتلقى تعزيزات عسكرية أميركية اوروبية وأسترالية وكندية يتم استقدامها عبر العراق والأردن عند الضرورة كما أشار آخر تقارير معهد واشنطن الذي يديره اللوبي الصهيوني.

يجب ان يدرك جميع أطراف محور المقاومة ان الوقوع في حبائل الأكاذيب الفرنسية سيكون هدرا للوقت بعدما أعلن ماكرون عزمه على سن قانون يدين العداء للصهيونية متجاوزا كل السقوف السابقة ويجب ان يسمع الموفدون الأوروبيون ان حكوماتهم ضيعت الفرصة وهي ستدفع ثمن انخراطها الذليل في الحلف الاستعماري الصهيوني الذي تقوده الولايات المتحدة كقوة عدوان واحتلال لامجال للتعايش معها فماكرون يخادع بتميزه الشكلي واللفظي السخيف بينما يواصل دوره كتابع لواشنطن وتل أبيب في كل شأن يخص محاور لبنان وفلسطين وسورية وإيران وإن أراد مسك نافذة تفاوض محتمل فلحساب سيده الأميركي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى