بقلم غالب قنديل

التسويات وحدية التناقضات الكونية

غالب قنديل

يبدو العقل السياسي في منطقتنا العربية ماضويا قاصرا عن استيعاب التغييرات المتراكمة في المشهد العالمي الجديد الذي يموج بالصراعات والتناقضات الدولية مشحونا بمخاطر التصادم المدوي للقوى العظمى المتنافسة وذلك بفعل بلادة الاستعارة التقليدية لفصول سابقة من الصراع والمنافسة التي شهدها العالم بحيث كانت تقود المواجهات إلى تسويات نتيجة استعصاء الصراعات وغياب توهم القدرة على الحسم والاعتراف بتوازن الرعب الرادع الذي ساد العالم بعد الحرب العالمية الثانية وهكذا يتكرر السؤال في منطقتنا وبلادنا باستمرار عن صفقات عقدت وتفاهمات أبرمت بين روسيا والولايات المتحدة حول هذه الساحة او تلك والأشد إثارة هو الأسئلة المتكررة عن التسويات والتفاهمات عند كل مفصل سياسي داخلي في لبنان كما يوحي “المتبحرون” في مجاهل الغيب السياسي العصي على الفهم.

المفارقة ان هذه العقلية التبسيطية الساذجة توغل في انتشارها وتتجذر بينما وقائع الصراع العالمي تشي بالعكس كليا فالتطاحن يبلغ أقصى مداه بين الإمبراطورية الأميركية والعملاقين الروسي والصيني ومعهما الهند وإيران القوة الإقليمية الصاعدة اقتصاديا وعسكريا وسياسيا وتكاد كل نسمة باردة او حارة على وجه الكرة الأرضية تحتسب في رصيد معادلات القوة التي تتحكم بصراع هذه القوى الكبرى المتطاحنة على الأسواق والموارد وطرق نقلها وبينما تشمل المنافسة وصيغ الاشتباك جميع القارات بما فيها أوروبا الغربية التي كانت تعتبر ملاذا اطلسيا في الحضن الأميركي الإمبريالي منذ الحرب العالمية الثانية بينما شطرها الشرقي كان جزءا من حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتي.

إن حروب الموارد والأسواق والتكتلات العابرة للحدود تلهب جميع انحاء الكرة الأرضية في مخاض تشكل جديد للتوازنات العالمية تشمل مخاضاته الموجعة حروبا كثيرة وصراعات اكثر تجارية وعسكرية ومالية ومصرفية ويمكن لمن يتمعن في المشهد الدولي ان يلاحظ غياب أي معطيات ترجح الاستنتاج عن قيام تفاهمات او صفقات في الظروف العالمية الراهنة فالمحتوى الرئيسي لحركة القوى العظمى هو شحذ السكاكين وتجميع الأوراق لتكوين الشراكات الكبرى والتحالفات العسكرية الموازية بينما تترنح دول قوية في خياراتها الحائرة وكأننا عشية حرب كونية متعددة الأطراف متداخلة الجبهات لايعطل انفجارها العسكري واقعيا غير توازن الرعب.

إنه الرعب الذي حركته ملامح الاشتباك النووي الكوني الافتراضي الذي أثاره استعراض العديد من الخبراء والمحللين للترسانة الأميركية الضخمة وصواريخها المنتشرة في الفناء الأوروبي مقابل تطور هائل في قدرات الردع الدفاعي الروسي المتطور بسرعة قياسية ومع صعود نجم الأسطول الحربي الصيني الذي يدشن دخول الصين للمرة الأولى في تاريخها الممتد كقوة إمبراطورية سباق القوى العالمية البحرية وخروجها من خلف السور العظيم الذي يحد نطاقها القومي بجيوشها المتطورة تكنولوجيا إلى العالم الواسع

الذي تتحرك الصين إليه بدينامية هائلة ومن دون استعراض عسكري او سياسي استفزازي لكنها تتقدم بثبات وبعمق.

إنها مرحلة عالمية تتسم بالصراع لا بالتوافق وتناقضاتها لا تبدو راهنا قابلة للاحتواء بأي اتفاق سياسي افتراضي بفعل الطبيعة العدوانية للقيادة الأميركية التي تستجمع قدراتها الضخمة في تصميم شرس على منع انهيارها او تراجعها كإمبراطورية مهيمنة امام القوى العظمى المنافسة الساعية إلى تثبيت معادلات جديدة وعلاقات جديدة على النطاق الدولي تلزم الإمبراطورية الأميركية بالخضوع لقواعد الشراكة.

من المستبعد التحول إلى إجراء الصفقات والتفاهمات الدولية المتعلقة بالصراع على الموارد والأسواق في العالم قبل ان تيأس النخبة الإمبراطورية الأميركية الحاكمة من نهج الحروب وسباق التسلح والسطو على ثروات العالم والهيمنة السياسية والاقتصادية عبر محاولة إخضاع القوى الصاعدة الكبرى والصغرى المناهضة للهيمنة الأميركية.

في هذا السياق يتصل كل نزاع في العالم بذلك الصراع الكلي على مستقبل المعادلات والتوازنات الكبرى ومستقبل الأسواق والتجارة والثروات الطبيعية وموارد الطاقة وطرق النقل والحركة المالية المصرفية العالمية ولن يتراجع التوتر او ينتقل العالم من حافة الهاوية الحربية إلى الاستقرار النسبي إلا بعد تساقط أوهام التسلط الأميركي الرافض لتعديل التوازنات والتفاهمات الدولية ورسو العلاقات الدولية على قواعد تناسب الوقائع الجديدة.

هذه المرة تقوم الصراعات والتفاهمات على لغة المصالح الباردة منزوعة الصلة بالإيديولوجيا التي غلفت نزاع المعسكرين الغربي والشرقي حتى انهيار الاتحاد السوفيتي وبينما يعتمل المعسكر الغربي بتناقضات وتعارضات كثيرة بفعل تباين المصالح يندفع الشرق إلى التلاحم في تمرده على هيمنة القطب الاميركي الواحد ويسعى لتفكيك الحلف المقابل واستمالة بعض أركانه كما بينت مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني.

بقدر ما يحظى الشرق العربي بالأهمية كمصدر للموارد وكممر لنقل الطاقة عبر البحار والممرات البرية والبحرية فإنه محور للمنافسة وبؤرة للتناقضات وهو يجمع إلى هذه العناصر كونه يحوي في جغرافيته القاعدة الاستعمارية الصهيونية التي أقيمت باغتصاب فلسطين بعد الحربين الكونية الأولى والثانية وهي قاعدة عدوانية تحتفظ عبر الحركة الصهيونية بقوة تأثير وفاعلية سياسية داخل دول الغرب الاستعماري وخصوصا في قلب الإمبراطورية الأميركية ونخبتها الحاكمة.

إن أي تحليل رصين لمسار الصراع الكوني في الظرف الحاضر لابد وان يسقط من الحساب وقوع التسويات المتخيلة والبعيدة كليا عن عقلية الحرب والعدوان والهيمنة التي تسود مراكز صنع السياسات في واشنطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى