بقلم غالب قنديل

انتفاضة السادس من شباط

غالب قنديل

علينا الاعتراف بأن أجيالا من الشباب لم تعاصر أحداثا كبرى أسست لمسارات نعيش في مناخ ما أحدثته من تغييرات في سياقاتها السياسية فهؤلاء تلقوا معلوماتهم وبنوا مواقفهم على ما نقل إليهم من مصادر تتصل بولاءات سياسية وانحيازات طائفية فلم يدققوا ليفهموا خصوصا وان مناهجنا التعليمية تطمس في كتاب التربية حقبة الاحتلال الصهيوني والمقاومة وهي تجافي الموضوعية في تسترها على ارتهان الحكم اللبناني آنذاك للمشيئة الأميركية الصهيونية من خلال اتفاق 17 أيار الذي أسقطته انتفاضة السادس من شباط عام 1984 وعبر تصاعد ضربات المقاومين التي فرضت على العدو التقهقر والانسحاب القسري دون قيد او شرط.

في انتفاضة السادس من شباط ظهر بقوة البعد الوطني بشعار اسقاط اتفاق العار الذي وقعته السلطة اللبنانية وأذعنت فيه للمشيئة الأميركية الاستعمارية التي استقدمت قوات متعددة الجنسيات من الحلف الأطلسي إلى الساحل اللبناني واكبت زحف جيش العدو إلى العاصمة بيروت لاحتلالها بمعونة جهات لبنانية تقدمتها ميليشيا القوات واجهزة من الجيش اللبناني بإيعاز من الحكم اللبناني أشرف عليه المفوض الأميركي فيليب حبيب ونفذه مدير المخابرات جوني عبده.

تصدرت حركة امل الانتفاضة الشعبية وكانت تقود بشخص رئيسها المحامي نبيه بري يومها حلفا وطنيا عريضا يقدم شعاري المقاومة لطرد الاحتلال وإسقاط اتفاق 17 أيار ويتمسك بالوحدة الوطنية وقد تميزت انتفاضة السادس من شباط بميزتين حاسمتين هما تحرك الضباط والجنود الوطنيين وتمردهم على القيادة التي انشاها الحكم الكتائبي والتي أصدرت الأوامر بسحق التمرد الشعبي والميزة الثانية ان تلك الانتفاضة كانت اول تحرك شعبي كبير خلال الحرب اللبنانية تشكل فيه قوة خاصة من حركة امل واحزاب اخرى مهمتها منع التعديات الطائفية والدفاع عن مفهوم الوحدة الوطنية وهذا ما ينبغي لأي منصف أن يعترف به دون مواقف مسبقة او بدافع الكيد السياسي.

وصايا انتفاضة السادس من شباط هي التي طبعت ما تبعها من احداث شقت الطريق الوعر نحو التفاهمات الوطنية اللاحقة فمن رحم تلك الانتفاضة كانت اتفاقات جنيف ولوزان ومن ثم الاتفاق الثلاثي ومن بعده كان التوصل بالحوار إلى اتفاق الطائف وعلى امتداد السنوات الست الواقعة بين الانتفاضة ومؤتمر الطائف كان الصراع بين إرادتين في لبنان : الحلف الوطني المقاوم الذي ينادي بالتوافق الداخلي على إصلاح النظام الطائفي وترسيخ الوحدة الوطنية وتكريس عروبة لبنان وعلاقته المميزة بسورية والإرادة الثانية مثلتها الجهات السياسية التي تمترست خلف الحلف الأميركي الصهيوني وتخندقت معه رافضة الإصلاح السياسي ومراهنة على الجبروت الأميركي وفي سياق المواجهة نشأت ظواهر عديدة كان منها الكتلة القواتية الكتائبية التي قادها الوزير الراحل الياس حبيقة وتيار شعبي جديد قاده العماد ميشال عون قائد الجيش وظاهرة سمير جعجع داخل القوات اللبنانية وحزب الكتائب مع انحسار واضح للقيادات التقليدية على جانبي خطوط التماس.

انتفاضة السادس من شباط 1984 هي حدث وطني تاريخي تجب دراسته وفهم مضمونه الذي رسخ روح مقاومة الاحتلال الصهيوني وفرض تمزيق صك الخيانة والعار وكرس مبدأ الحوار الوطني لصنع التفاهمات الوفاقية التي تنقذ البلاد من طواحين الدم والموت اما انتفاضة الضباط والجنود الوطنيين فكانت ركيزة صلبة لمفهوم التلاحم بين الجيش والشعب والمقاومة الذي قام لاحقا عندما اعاد العماد إميل لحود بناء الجيش اللبناني بعقيدة قتالية وطنية عروبية إثر اتفاق الطائف.

يجب ان تبقى انتفاضة السادس من شباط ميراثا وطنيا عظيما جديرا بالاحترام وبالتخليد في ذاكرة الأجيال لبعدها الوطني ولكونها الحدث الذي أرسى مقدمات الوفاق الوطني حول هدف إنهاء الحرب الأهلية وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها ولكونها شكلت قوة دفع كبيرة للمقاومة نحو استكمال تحرير الوطن من الاحتلال الصهيوني فبنتيجة هذه الانتفاضة تصاعدت المقاومة ضد الاحتلال وحظيت بقواعد ارتكاز متينة وتقهقر الصهاينة بجيوشهم الغازية وتم سحب القوات متعددة الجنسيات الأطلسية الداعمة للعدو الصهيوني التي كال لها بعض المقاومين المكتومين ضربات نوعيه ومؤلمة تستحق التخليد لعظمة ما أنجزت.

ستبقى الانتفاضة حدثا تاريخيا يحمل بصمة خاصة لحركة امل وللرئيس نبيه بري الزعامة الشعبية والوطنية المقاومة التي انشات معادلة جديدة لصياغة إرادة وطنية لبنانية تسعى لإنهاء الحرب والتقسيم ولتحقيق الوفاق اللبناني الذي يكرس الوحدة الوطنية ويحتضن المقاومة ويحسم خيار العروبة من خلال العلاقة المميزة مع الشقيقة سورية تلك هي الحقيقة التي لن تمحى من التاريخ اللبناني الحديث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى