بقلم غالب قنديل

عن الاستقلال والسيادة في لبنان

غالب قنديل

كثيرة هي الوقائع التي تؤكد ان لبنان لم ينل استقلاله عام 1943 بل إنه انتقل من الخضوع للانتداب الفرنسي إلى قيام حكومة لبنانية مستقلة في الشكل وهي جوهريا تابعة للسيطرة الاستعمارية الغربية تنبثق عن نظام سياسي طائفي يمنع تبلور الهوية الوطنية والقومية ويمزق اللبنانيين بصورة متجددة.

اليوم يعيش لبنان حالة من الإزدواج السياسي والوطني نتيجة المساكنة الداخلية بين محور المقاومة والاستقلال ومحور الارتباط بالهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية وبمنظومتها في المنطقة ويتمادى الإزدواج ويتبدى في معظم المجالات لأن حسم الصراع والتناقض ينطوي على خطر التصادم العنفي الطائفي والمذهبي نتيجة تشبع الجمهور بثقافة العصبيات وبالانحياز إلى الارتباطات الخارجية الحامية لها وكأن البلد يكرر نفسه بتعبيراته السياسية منذ مايزيد على القرن من الزمان.

لايمكن لأي استقلالي حقيقي تحمل مظاهر خضوع لبنان لأنماط حديثة من الوصاية الأجنبية في المجالين الاقتصادي والمالي وعبر أداة تقليدية استعملها الاستعمار الغربي تاريخيا لإخضاع البلدان التابعة والحاقها بالهيمنة وهي الديون وفوائدها التراكمية للصناديق والبنوك والحكومات الغربية تضاف إليها أداة أميركية شائعة هي العقوبات التي نمثل كما وصفها الرئيس ميشال عون استعمارا ماليا.

تزدحم اليوم مظاهر ذلك الخضوع في المشهد اللبناني خصوصا بعد مؤتمر سيدر الذي تمخض عن أشكال صارخة من الوصاية المالية والإدارية التي تناقض أي استقلال حقيقي في أي بلد على وجه الكرة الأرضية وتكبل الحكومة اللبنانية سياسيا بشروط الجهات المقرضة بينما تفرض الولايات المتحدة عقوبات مصرفية ومالية على النظام المصرفي اللبناني تحت شعاروقح معاقبة المقاومة التي يسمها المستعمر الأميركي بالإرهاب.

يمكن لدعاة التكيف مع العقوبات والقروض والخضوع للشروط والإملاءات السياسية والاقتصادية المناقضة للسيادة والاستقلال ان يقدموا لائحة مطولة بكلفة الرفض من الإجراءات والتدابير الصارمة والعواقب المؤلمة التي قد تصل حد عزل لبنان اقتصاديا عن الغرب والعديد من بلدان العالم بتحريم التعامل مع الشركات والمؤسسات اللبنانية العامة والخاصة والنيل من المصارف انتقاما من أي انتفاضة كرامة وسيادة قد تبادر إليها الحكومة اللبنانية .

لكن ما تقدم لا يقلب الأمور فيصبح الإذعان للهيمنة استقلالا كما لايقدم تفسيرا او تبريرا للتمسك بالتوجه اللبناني الأحادي الغربي الخليجي دون اختبار فرص الشراكات الاقتصادية المتكافئة والندية التي تطرحها تجاريا ومصرفيا دول الشرق الصاعدة الصين وروسيا والهند وإيران على وجه الخصوص وقد اظهرت مقاومة هذه الدول للعقوبات الأميركية الشرسة وجود فرص جدية لاختبار بدائل الخضوع للهيمنة الأميركية كما طورت دول الشرق تلك نماذج في التعامل الاقتصادي تجسد احتراما عميقا لشروط السيادة والاستقلال ونمطا من الشراكة التجارية والمصرفية التي تراعي خطط التنمية بعيدة المدى وكذلك تضمن النموذج الصيني بالذات حوافز تمويل واحتواء لمشاكل الديون بتمويل السداد وبإعادة الجدولة الطويلة زمنيا وهذا بالذات ما يحتاجه لبنان لاسترداد شيء من التوازن يتيح انطلاق التصحيح الاقتصادي التاريخي بعيدا عن الابتزاز والإملاءات السياسية التي تقوض الاستقلال والسيادة.

الطغمة المالية المصرفية العقارية المهيمنة في النظام اللبناني تضع عينها على عائدات النفط والغاز المتوقعة في السنوات المقبلة وهي لن توفر سبيلا إلى ذلك بعدما استنزفت موارد البلد ومدخراته في حلقة الدين والتقاسم الريعي وتبذل جهودا مكثفة لاعتراض أي انفتاح لبناني على دول الشرق او إقامة شراكات فعلية مع سورية أوإيران أوسائرأطراف الكتلة الشرقية.

ما يستحق الذكر تحت عنوان الاستقلال هو تضحيات المقاومة التي حررت الأرض من الاحتلال الصهيوني وأقامت بالشراكة مع الجيش اللبناني منظومة دفاع وحماية تمنع العدوان الصهيوني عن لبنان ولكن الاستقلال الحقيقي ما زال يستدعي معركة سياسية حول الخيارات اللبنانية سياسيا واقتصاديا ومراجعة لسبل التخلص من النظام السياسي الطائفي الذي وسع منافذ التدخل الخارجي وضعضع البنيان الوطني منذ قيامه فقطع الطريق على تبلور الهوية الوطنية والشعور بالانتماء الوطني.

كل مبالغة تنسفها الوقائع لايمكن أن تدوم والبرهنة على أن لبنان بلد مستقل سياسيا واقتصاديا هي مهمة شبه مستحيلة في الظروف الراهنة رغم جميع عناصر القوة التي تميزه وترسم فرادته في محيطه القومي كبلد قهرشعبه ومقاوموه الكيان الصهيوني وشكلوا القوة السياسية الشعبية المقاتلة التي تلعب دورا حاسما في حركة التحرر العربية وقد أثبتت للتو قدراتها الهائلة بالتصدي لغزوة التكفير ولأخطارها الوجودية ويزيد من سطوة رشاد المقاومة واحترامها تحملها المضني لكلفة المساكنة مع خصومها المحليين التابعين للحلف الاستعماري الرجعي ولمنظومة الهيمنة في المنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى