بقلم غالب قنديل

تصحيح الخلل المزمن

غالب قنديل

ثمة رواية سياسية محجوبة عن اللبنانيين والشباب خصوصا تتعلق بكيفية فرض الاحتكار التمثيلي الحريري على “الشارع السني” وعلى الوسط السياسي بأسره وفيها ما يتخطى فعل النفوذ السياسي والمالي والأدوات الإعلامية الخاصة والمستأجرة التي زجها تيار المستقبل في اوسع عملية تجويف وتقويض للقوى المنافسة بمعونة حليفين كبيرين وفاعلين تحت رعاية أميركية غربية وبدعم فرنسي غالبا هما المملكة السعودية وفريق الإدارة السورية في لبنان بركنيه عبد الحليم خدام وغازي كنعان.

كان الرئيس حافظ الأسد في مطلع التسعينيات يكرس كل جهوده وجل وقته لمعركة سياسية ضارية مع الحلف الأميركي الصهيوني منذ مؤتمر مدريد وقد روى لي الأستاذ الراحل جبران كورية ان الرئيس في حينه كلن يتلقى أكثر من ألف صفحة من التقارير الموجزة وملخصات المحاضر كل يوم وأقصى ما استطاعه لحماية أصدقاء سورية المستهدفين من خصوم الحريرية ومخالفي مشروعها الاقتصادي والسياسي أن يوفر لهم مظلة للحماية والتدخل عند اللزوم لمنع البطش بهم عبر الدكتور بشار الأسد الذي نقل إليه الرئيس مسؤولية متابعة هذا الشق من الملف اللبناني بعد وفاة شقيقه الرائد باسل وكان في صلب هذا الانتقال موضوع العلاقة بالمقاومة التي دبرت ضدها محاولات انقلاب متكررة وكان حلفاؤها الوطنيون من الطائفة السنية الأشد حزما في الدفاع عنها من مواقعهم السياسية والرسمية.

تقدمت عمليات التجويف السياسي والشعبي لزعامات وطنية راسخة بمجموعة ادوات تكفل بفرضها ثنائي خدام كنعان مستثمرا وزن سورية وخطوط إدارة الملف السياسي بعد الطائف في جميع المجالات لترجيح كفة الحريرية وتمكينها من الاكتساح السياسي للخصوم ناهيك عن التنكيل بهم بدءا من تفصيل الدوائر في قانون الانتخاب لصالح ثنائي الحريري جنبلاط وباستثمار المقاطعة المسيحية إلى إعمال جميع وسائل الضغط والتأثير المالية والسياسية وتعطيل أي ضوابط .

في إحدى اللقاءات بعد انتخابات 1996 روى لي دولة الرئيس سليم الحص كيف كان ينظم شؤون مواطنيه في مدينة بيروت عبر لجان في الأحياء تضم نخبة من الشخصيات التي يحترمها الناس ويثقون بها وكيف شرعت تصله المعلومات عن استدعاء هذه اللجان إلى قصر قريطم واصطياد كوادرها وكيف تمادى تنفيذ انقلاب سياسي ضده باستعمال المال وبتدخلات امنية سورية لصالح الراحل الحريري وفريقه السياسي وكنا يومها نناقش ما حصل في تلك الانتخابات ونتائجها وسمعت رواية مماثلة عن طرابلس من الرئيس الراحل عمر كرامي ولدينا حشد من الوقائع الكثيرة المشابهة عن حروب الحريرية لتكريس احتكارها السياسي بمعونة جنبلاط وخدام وكنعان وهذا ملف لو فتح لظهرت في ثناياه حقائق مشينة فيها شراء مواقف وخيارات بالمال وبالمناصب والامتيازات وضغوط أساءت لصورة سورية ولسمعتها ولموقفها القومي والوطني.

الحقيقة التي تهمنا اليوم هي ان تيار المستقبل لم ينشأ وبيده احتكار تمثيل طائفة كبرى كانت فيها زعامات وقامات وطنية مقاومة وناصر جمهورها عبر عقود فكرة العروبة والمقاومة من زمن الزعيم جمال عبد الناصر والثورة الفلسطينية.

بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري لتفجير لبنان ولفرض الخروج السوري والشروع بمحاولة تصفية المقاومة بقيادة جيفري فيلتمان وقع الفرز السياسي الكبير بين معسكري الثامن والرابع عشر من آذار 2005 وكانت قاعدة الفرز هي الموقف من سورية والمقاومة ويومها وقف حلفاء سورية الذي ضربتهم الحريرية بواسطة من تكشفت بعدها خيانتهم لدولتهم وقفوا إلى جانب مبادئهم وتمسكوا بدعم قلعة العروبة والمقاومة في دمشق التي كانت هي المستهدفة مع المقاومة البطلة التي أذلت العدو.

كان الرئيسان سليم الحص وعمر كرامي والنواب أسامة سعد وزاهر الخطيب وعبد الرحيم مراد وجهاد الصمد ومروحة واسعة من القوى والشخصيات الوطنية العروبية في مقدمة الثامن من آذار والأوضح في التعبير عنها كخيار سياسي داعم للمقاومة وللتحالف مع الشقيقة سورية وقد استهدفت هذه الرموز والقوى امنيا وسياسيا وماليا وطالها مع انصارها تنكيل وانتقام بواسطة بعض الأجهزة الأمنية وعبر حملات إعلامية كثيفة وتجنيات بلغت حد توجيه اتهامات لبعضها بالتورط في جريمة الاغتيال – كجمعية المشاريع- لإسكاتها ورصدت عيون المخبرين جميع زوار دمشق وفبركت عنهم روايات كاذبة تجند لنشرها وبثها طابور من المرتزقة في معظم وسائل الإعلام التي أغدقت عليها الأموال والعطايا وكانت الحملات الأشد قسوة على رموز الفريق الوطني من الطائفة السنية بصورة منافية لأي قيم او اخلاق ولأي قانون.

كان الفرز الحقيقي وطنيا وقوميا في حرب تموز 2006 التي كانت ثمرة خطة اميركية صهيونية رجعية ساهم فيها الناتو بجميع دوله وخصوصا “الأم الحنون” فرنسا و”المملكة العجوز” بريطانيا وألمانيا مركز اللوجستيك الصهيوني في أوروبا وخلال هذه الحرب كان الوطنيون من الطائفة السنية في المقدمة دفاعا عن لبنان وعروبته وعن المقاومة واستمر استهدافهم بالضغوط والإغراءات لتجريد المقاومة من أحد أبرز عناصر مناعتها كما تبين في ما بعد عندما ظهرت الفتنة المذهبية كأحد اخطر أدوات غزوة التكفير التي قرعت أبواب لبنان وجروده وسهوله ومدنه بعنف العمليات الانتحارية لخلايا داعش والقاعدة التي كان بعضها محميا من مواقع في السلطة احدثها وحماها وادارها تيار المستقبل للمشاركة في تدمير سورية وتفجير لبنان.

في جميع التسويات الحكومية اللاحقة رضخت قوى الثامن من آذار رغم كل ما تقدم وانصاعت لفرض الاحتكار التمثيلي الحريري باستثناء الحكومة التي تخلى فيها الرئيس نبيه بري عن مقعد وزاري من حصة كتلته لصالح فيصل عمر كرامي.

التصميم والحزم في موقف قيادة حزب الله والرئيس نبيه بري حول تمثيل اللقاء التشاوري يجسد تصحيحا تاريخيا مستحقا لخلل تراكمت مقدماته وعناصره الإلغائية منذ اتفاق الطائف بحق تيارات وشخصيات سياسية واعتبارية وطنية عروبية تم شطبها وتغييبها بأفعال مدبرة وغير اخلاقية يعرفها الجميع ولذلك فإن هذا التصحيح المهم وطنيا وسياسيا يكتسي قيمة أخلاقية عالية في السياسة اللبنانية وهو مدماك راسخ ضد رياح الفتنة المسمومة التي باتت ابتزازا مستمرا ضد الذين نزعوا انيابها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى