بقلم غالب قنديل

متى تنتهي صلاحية النظام الطائفي ؟

غالب قنديل

عندما ينظر إلى النظام السياسي الطائفي بعقلية استشراقية أي بمعزل عن فكرة الهيمنة الاستعمارية الغربية ومنظومتها في المنطقة بجناحيها الرئيسيين الكيان الصهيوني والرجعية العربية تتحول المسألة إلى تخيل رومانسي وطوباوي لبناء ديمقراطية ليبرالية من النسق الغربي الموصوف والمتخيل.

ففي الواقع تكشف ازمات الركود وانكماش الهيمنة العالمية في الغرب نفسه عن وجوه بشعة لاستمرار العنصرية العرقية والدينية وعن حقائق استمرار العائلية وغيرها من وجوه التخلف الاجتماعي والثقافي داخل المجتمعات الغربية وهي المظاهر نفسها التي ينقدها الحالمون في بلادنا بنقل القيم الغربية الشائعة وتقمصها وهي ليست إلا اقتباسا لصورة إيديولوجية مزيفة يسوقها الغرب لاصطياد العملاء بوعي ودون وعي والحالان سيان.

الوصفة الطائفية لبناء السلطة السياسية كانت في الأصل قرينة الهيمنة الاستعمارية وهي نتاج قرون من السيطرة الريعية للاستعمار العثماني الذي خلفته امتيازات الوصاية الغربية في بلادنا والتي تحولت مع الانتدابين الفرنسي والبريطاني إلى أداة اختراق وإخضاع طبقت خرائط التقسيم والتفتيت الاستعماريين كما رسمت هياكل العصبيات الطائفية وتراتبها في تكوين الحكم تحت الانتداب وبعده.

أولى ثمار الانتداب الغربي كانت الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين الذي انشأ قاعدة مركزية للاستعمار الغربي في الشرق العربي وقد برهنت الوثائق والوقائع على ان الهجرات الاستيطانية إلى فلسطين سبقت وعد بلفور وكانت مقدمته الفعلية وليس العكس وهي كانت حملات إحلالية استيطانية مدبرة ولم تكن انتقالا عفويا جماعيا بحثا عن أسباب العيش كما هي موجات الاغتراب الأخرى عبر القارات فالحركة الصهيونية المنظمة والنافذة في الغرب ماليا وسياسيا لعبت دورا حاسما في ذلك بالتعاون مع حكومتي بريطانيا وفرنسا دولتي الانتداب الغربي على منطقتنا.

بالتزامن مع استعمار فلسطين كانت عملية تأسيس الصيغة الطائفية للحكم في لبنان على نسق أرساه بالأصل حكم الوصاية الأجنبية بواسطة القناصل في غروب العهد العثماني وما تؤكده الوقائع ان تلك الهندسة السياسية توخت ترسيخ التبعية والهيمنة الاستعمارية ومنع امتداد او تفتح النزعة القومية التحررية التي نهضت في البلاد العربية على موجات متعاقبة وشارك فيها رواد لبنانيون من الكتاب والمفكرين والمثقفين.

كان الانفصال الجمركي والمصرفي بين سورية ولبنان في اواسط القرن العشرين آخر فصول القطيعة مع التشابك القومي حقوقيا واقتصاديا وماليا والمرتكز لإحكام القبضة الغربية على لبنان وإدارة قناصل الغرب لهيكل النظام الطائفي المانع لتبلور هوية وطنية تحررية باحتواء كل نزعة تقدمية وتحويلها بحكم التركيبة الإيديولوجية السياسية إلى نزاع طائفي داخل بلد لا يمكن عزله عن محيطه فالنظام الطائفي الذي أقيم منذ العام 1943 ارتبط باستمرار الهيمنة الغربية والخضوع لها وهو بنسخه المعدلة ما يزال حتى اليوم مصدرا للهيمنة والوصاية السياسية المستمرة رغم اننا في زمن مقاومة وطنية لبنانية حررت الأرض المحتلة وطردت جيش العدو الصهيوني دون قيد أو شرط.

ليس من الفراغ ان يجد المخططون الأميركيون في الصيغة الطائفية للحكم  وصفة مناسبة لتثبيت الهيمنة على العراق المحتل فاستعاروا النموذج اللبناني وأسقطوه على العراق المتعدد طائفيا وعرقيا بعد غزوة 2003 وها هي وصفة تثبت جدواها بمنع قيام سلطة مستقرة قادرة على فرض الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية اقتصاديا وسياسيا واستنهاض دور العراق المركزي في المنطقة بما لديه من ثروات مادية وبشرية ونتيجة موقعه الاستراتيجي ويعلم كل فطين ان الموفد الأميركي إلى بغداد ليس رسول وفاق بين العراقيين بل هو وصي منتدب لتثبيت مواقع النفوذ والسيطرة الأميركية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا بذريعة مواجهة فلول داعش التي حماها الأميركيون من التصفية وحافظوا عليها كاحتياط ضروري.

نجت سورية من هذه اللعنة بفعل غلبة نزعة التحرر الوطني والاستقلال منذ عهد البرجوازية السورية التي تميزت بانتمائها الإنتاجي المستقل وبرسوخ هويتها القومية ونتيجة يقظة شعبية عارمة ودينامية مرتفعة للتيارات القومية والوطنية العابرة للطوائف والمناطق وليس من المصادفات ان يكون من أهم حواجز التصدي للغزوة الاستعمارية الأخيرة ضد سورية تمسك الرئيس بشار الأسد بدولة وطنية علمانية جامعة ورفضه لجميع الوصفات السياسية المكرسة لتعميم الاضطراب الداخلي ولفرض الخضوع للهيمنة الاستعمارية ومن الصحيح اعتبار ان لب الصراع الذي تخوضه سورية هو الدفاع عن الاستقلال الوطني والتصدي لمنظومة الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية التي دبرت كل ذلك الويل.

فكرة الدولة الوطنية التي تناسب مجتمعاتنا ترتبط بالتحرر من الهيمنة وبشبكة قومية عابرة للحدود على قاعدة المصالح المشتركة وجوديا كما برهنت الأحداث خلال السنوات الأخيرة وهذا يرتبط باعتناق النضال ضد الكيان الصهيوني والحلف الاستعماري الغربي وبالتمسك بالشراكة القومية وهنا التحدي الذي يجب اعتباره اولوية أي نضال تحرري تقدمي.

لذلك وفي لبنان ولتثبيت ما انجزته المقاومة وما حققته من تحول تاريخي في معادلات التصدي للعدوان الصهيوني وبما توجته من وقائع في التصدي للغزوة الاستعمارية بواسطة عصابات التكفير ينبغي التركيز على أولوية إسقاط الوصاية الأميركية السعودية الفرنسية والهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية والعمل لمراكمة وعي شعبي وطني وقومي ضد الهيمنة بموازاة النقد المستمر للنظام الطائفي باعتباره موروثا استعماريا تنبغي إزالته وحين تتشكل حركة شعبية مشبعة بهذا الوعي يمكن ان تنضج شروط التغيير الحقيقي باستثمار التحول الجديد الذي تتبلور مقدماته مؤخرا وهو استنفاذ الصيغة الطائفية لأوهام المكاسب المتاحة بعد أكثر من ربع قرن على اتفاق الطائف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى