بقلم غالب قنديل

الإمبراطورية المتصدعة

غالب قنديل

كشفت التفاعلات الأميركية لوقائع قمة هلسينكي عمق الانقسام في المؤسسة الحاكمة، والشرخ الكبير في المجتمع الأميركي بين النخبة المالية والعسكرية المتسيِّدة، التي كانت خلف حملة العولمة والهيمنة الأميركية الأحادية على العالم، خلال الأعوام الثلاثين الماضية من جهة، وبين والشرائح الرأسمالية الأميركية الواقفة خلف الرئيس ترامب وحملته، للعودة إلى التدابير الحمائية، دون التخلي عن استعمال القوة العسكرية الإمبراطورية المنتشرة في أكثر من مئة وأربعين دولة في العالم، ومواصلة الحروب، التي تخوضها مباشرة أو بالوكالة في العديد من أنحاء العالم .

الرئيس دونالد ترامب يواصل خوض هذه الحروب، التي كشفت نتائجها الواقعية حدود عقيدة استعمال القوة في فرض الهيمنة، واستخدامها لإخضاع المنافسين. وهو سعى واقعيا من خلال قمة هلسينكي لترسيم جبهات الصراع وفتح قنوات الاتصال، التي تمنع التدهور إلى حرب كبرى مع روسيا، تجمع المؤسسة الحاكمة على تجنُّبها وتفاديها، نظرا لكلفتها العالية على المصالح الأميركية والاقتصاد الأميركي. بينما هو يواصل قيادة فصول الحرب التجارية مع الصين، ويُحكِم ارتباطه باللوبي الصهيوني والدولة العبرية من خلال سياسة المواجهة ضد إيران، وسعيه لفرض الهيمنة الصهيونية وتكريسها في المنطقة من خلال ما يُدعى بصفقة القرن.

اتهام ترامب بالخيانة واستهدافه من قبل تجمعات المحافظين في الحزبين الديمقراطي والجمهوري لم يهزّا مساندة مؤيديه من غالبية الناخبين الجمهوريين، وفقا لاستطلاعات الرأي، التي أجرتها مؤسسات وشركات، كانت في عداد تحالف مجموعات الضغط المناوئة لرئاسته، منذ صعوده كمرشح من خارج المؤسسة التقليدية لليمين الأميركي، ورغم انضواء عدد من صقور المحافظين في فريقه الحاكم.

العبرة أن الإمبراطورية الأميركية خرجت من حروبها ومغامراتها لفرض الهيمنة مربكة ومتصدعة ومنقسمة بين خياري التكيف مع الوقائع الجديدة اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، أو تسعير العداء للقوى المناهضة والمنافسة بالسير على حافة الهاوية. بينما بالمقابل تتواجد كتلة صاعدة عالميا بقيادة روسيا والصين، تتقن إدارة الصراع بجميع مستوياته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهي تستثمر المأزق الأميركي وتباينات المصالح داخل المعسكر الغربي، بحيث يثور قلق متصاعد في واشنطن من تغلغل الصين في أوروبا الشرقية والوسطى، عبر شراكات اقتصادية وتجارية، قطعت أشواطا كبيرة بتحفيز صيني معلن، خلال الأسابيع القليلة الماضية. في حين كشف الانسحاب الأميركي من معاهدة الاتفاق النووي الإيراني ثغرة كبيرة في جدار الغرب تعمل إيران ورسيا والصين على النفاذ منها إلى واقع دولي جديد، بإتاحة فرص للشراكة مع الدول الاوروبية الكبرى والفاعلة اقتصاديا وعسكريا.

يعيش العالم بأسره، على صدى الاختلاف في واشنطن، فصول مخاض كبير وحراك جذري في العلاقات الدولية والتوازنات الحاكمة للوضع العالمي برمته. وهي تتصل بالانقسام الأميركي الكبير على صعيد النخبة الحاكمة، التي يلتصق الرئيس الأميركي بفريقها الصهيوني، طالبا الحماية من هجمات المجموعات الضاغطة السياسية المناوئة له، والتي لا تقل عنه انحيازا للكيان الصهيوني على الصعيد الاستراتيجي.

هذا الوضع بعناصره ومستوياته المركبة والمتداخلة غير مسبوق، ولم يشهده العالم منذ أمد بعيد في مناخ عام من السباق المحموم والصراع الضاري على الموارد والأسواق، وذلك هو الإطار الشمل والأشد فاعلية وتأثيرا في صنع التوازنات والخيارات.

جلّ ما فعله ترامب، هو الاعتراف بالتعددية القطبية، التي باتت امرا واقعا في العالم. وسبق لسلفه باراك أوباما أن اعترف به، وواجه اعتراضات وانقلابات مشابهة لما واجه خلفه دونالد ترامب. مما يفيد ان جذور المشكلة تتعدى الأشخاص وهوياتهم الحزبية وجمهورهم الناخب إلى عمق النظام الأميركي، الذي يقاوم نزعة الاعتراف بانهيار الهيمنة الأحادية وبحتمية التكيف مع النتائج. وهذا ما تدركه بعمق ووعي كتلة الشرق الصاعدة المناهضة للهيمنة الأحادية، وتبني سياساتها على أساسه. فإدارة دونالد ترامب لم ترضخ لاستحقاق الاعتراف من خلال شكل القمة في هلسينكي، إلا بعد اختبار فصول ساخنة من التصعيد في الحرب على سورية، والعداء لروسيا وإيران، والحرب التجارية، التي كان هدفها الاول، هو التصدي للقوة الاقتصادية الصينية العملاقة.

استعصاء التوازنات وحتمية الرضوخ للمساكنة، هي الأصل في معادلات القوة الاقتصادية والعسكرية، والتاريخ يبيِّن لنا ان الوقائع ستجبر النخبة الحاكمة على الرضوخ لعناد التحوّل الواقعي المتراكم عالميا. ومن الواضح أن قوى الاعتراض الأميركية أرادت استثمار الحملة بعد القمة في محاولة للحصول على قوة استقطاب ضد ترامب وحزبه، على أبواب الانتخابات النصفية في الخريف المقبل .

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى