بقلم غالب قنديل

التعليم العام والجامعة الوطنية

غالب قنديل

تتفق الدراسات والتقارير العلمية المعاصرة على اعتبار التعليم أهم وجوه الاستثمار في التنمية وفي لبنان شهدنا خلال أربعين عاما فورة كبرى للتعليم الخاص بجميع مراحله بينما تمادى تهميش التعليم العام.

القوى الطائفية التي تمركزت هياكلها في الواقع السياسي أقامت رأسماليتها استثمارات ضخمة في القطاعين الطبي والتعليمي وتماهت في تمركز شريحة اجتماعية قائدة من أصحاب المصالح المرتبطة بخدمتي الاستشفاء والتعليم وهي سعت عبر ممثليها السياسيين لانتزاع التسهيلات والعقود الحكومية ضمن منطق التوازن الطائفي الذي انسحب على شتى وجوه حياة النظام اللبناني .

بالتوازي مع تضخم التعليم الخاص الطائفي والمذهبي شهدت العقود الأربعة الماضية ضمورا وإهمالا متعمدا ومتماديا للتعليم العام الذي تملكه الدولة بجميع مؤسساته حتى الجامعة اللبنانية رغم اتساع قاعدته العريضة بتحوله إلى ملجأ وحيد لأبناء الفقراء والطبقات المسحوقة والشرائح الوسطى التي تدهورت احوالها نتيجة تغول الرأسمالية المصرفية والعقارية وتوحشها في ظل تحكم نهج الخصخصة بشتى وجوه الحياة في البلد.

رغم هذا الوضع المجحف الذي فرض على التعليم العام والجامعة الوطنية المحرومة من أبسط الأدوات البحثية والعلمية بل واحيانا الاحتياجات البدائية للتعليم العالي تميزت المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية بمستوى علمي متقدم وبتفوق طالباتها وطلابها مقارنة بالقطاع الخاص الطائفي الذي يعمم العصبيات وروحها وثقافتها في صفوف الأجيال الفتية والشابة بينما تغيب تلك العناصر عن حياة المدارس العامة والمهنية التي تديرها الدولة وهي محكومة بالتعدد والتنوع فلا تظهر فيها العصبيات إلا نتيجة مساعي القوى السياسية الطائفية المكونة للسلطة.

في موازنات الدولة العامة تحرم مرافق التعليم العام والمهني والجامعة الوطنية من أبسط المقومات ويحرم طلابها من احتياجات وبديهيات كثيرة ورغم ذلك يعترف خبراء التربية والتعليم بتفوق المستوى العلمي لخريجي المدارس والمهنيات الحكومية والجامعة اللبنانية في مختلف الاختصاصات.

بناء الوطن وبناء الاقتصاد رهن بنهوض التعليم وتعميم المعرفة العلمية وتلك هي خبرة جميع الدول الصاعدة حديثا التي استطاعت شق طريقها إلى النمو الاقتصادي لانتزاع مكانة منافسة ومتقدمة وهو ما ينطبق على الدول الكبرى والصغيرة في العالم المعاصر فلم تكن أي امة من الأمم الناهضة قادرة على شق طريقها لولا ذلك وهو امر ينطبق على الصين في أقصى الشرق كما ينطبق على إيرلندا في عمق الغرب.

ليس من الممكن واقعيا التفكير بتأميم التعليم لكنه تدبير تقدمي لا تحتمله البنية الطائفية السياسية لنظامنا نتيجة رسوخ العصبيات على مستوى الجمهور والحد الأدنى المتاح من التوجهات الإصلاحية هو اعتبار التعليم العام والمهني والجامعة اللبنانية اولوية حاسمة للتنمية وبندا رئيسيا في أي مخطط اقتصادي لبناني وهو أمر لا يقل أهمية عن الخطوات الكبرى الضرورية لتنمية قطاعات الإنتاج الصناعي والزراعي.

الاستثمار في بناء القوة البشرية المنتجة والمبدعة كان طموحا لبنانيا قديما وما يزال املا متجددا ومسؤوليات الدولة ومؤسساتها تتعاظم مع ارتفاع منسوب التحديات المستجدة للمنافسة وتراجع الإمكانات المتاحة وبعدما استنفذت فورة الخصخصة التعليمية موجتها العارمة بعد الحرب الأهلية خلال العقود الماضية بات واقع التدهور الاجتماعي وتراجع القدرة الشرائية للشعب عنصرا محفزا لإحياء مرافق التعليم الحكومية وتجديد شبابها ورعايتها وبداهة لوقف الاهتراء والتآكل في الأبنية المدرسية ونزف الجهاز التعليمي.

إن الشريحة المتمولة في الطوائف والمذاهب تمسك بمؤسسات القطاعين التعليمي والصحي الخاصة بها وهي تخضع آلاف العائلات لتبعات واكلاف متزايدة لقاء خدماتها وتتماثل في أسعارها وطرائق عملها بلا أي تمايز فعلي وسيكون هذا الواقع أشد إيلاما للناس مع تفاقم شح الموارد مما يعزز ميل جمهور متزايد للبحث عن البدائل الحكومية وهو ما لاتعتبره معظم القوى السياسية اولوية في برامجها تعمل لفرضها على الحكومات وبالكاد تذكر المستشفيات الحكومية والمدارس الحكومية والمهنيات الحكومية والجامعة اللبنانية من خارج ملفات المحاصصة وتقاسم التعيينات والتلزيمات.

القطاع العام الصحي والتعليمي هو مجال لبث الانتماء الوطني والهوية الوطنية الجامعة بينما يعزز تطييف القطاع الخاص الاستشفائي والتعليمي عصبيات الانقسام وتقاليد الانغلاق والتعصب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى