بقلم غالب قنديل

لبنان أميركيا: المساكنة والاحتواء

غالب قنديل

يمكن اعتبارا من حرب تموز 2006 التأريخ لتبلور محور المقاومة كقوة إقليمية فاعلة ومتحركة تقود استراتيجية الدفاع عن بلدان المنطقة ضد الغزوة الاستعمارية الصهيوينة الرجعية التي انطلقت مع غزو العراق واحتلاله قبل ثلاث سنوات من ذلك العدوان الصهيوني على لبنان وما تبعه من استهداف لقطاع غزة ويمكن أيضا اقتراح تاريخ الانتصار العظيم للمقاومة بالتحرير الشامل عام 2000 بوصفه إشهارا تاريخيا لقيام المحور فلا مجال لتجاوز حقيقة ان الحلف السوري الإيراني شكل القوة الحاضنة للمقاومة اللبنانية ولانتصارها منذ انبثاقها عام 1982 عقب الاجتياح الصهيوني للبنان وهذا الحلف كان متناغما بقوة في التعامل مع الواقع السياسي اللبناني حيث رعت سورية عملية إعادة بناء الجيش اللبناني بعقيدة قتالية واضحة وأمنت علاقة تكاملية بين الجيش والمقاومة شكلت جسرا جديا في العبور إلى التحرير وطرد الاحتلال واقتلاعه من لبنان.

منذ تلك المحطات الفاصلة كان واضحا ان الولايات المتحدة والحلف الاستعماري الصهيوني والحكومات الرجعية العربية التابعة والعميلة التي شاركت من خلال مجموعة شرم الشيخ في حرب تموز لم يدخروا جهدا في السعي لاسترجاع لبنان إلى حظيرة الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية وإلحاقه بمحور الهيمنة في المنطقة من خلال تكامل أدوار القوى الاستعمارية الغربية بقيادة الولايات المتحدة وإسرائيل والرجعية العربية بزعامة السعودية.

جميع الصراعات الداخلية في لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري تقع في سياق محاولات متكررة لوضع اليد على السلطة والتخلص من كتلة لبنانية قوية وراسخة شعبيا وسياسيا تشكل جزءا من محور المقاومة المناهض للهيمنة في المنطقة وهو ما يصطلح على تسميته بمرتكزات النفوذ الإيراني والسوري ويعطى احيانا توصيفات طائفية في مصنفات التدبير الفتنوي.

ظهر رضوخ المعسكر الغربي الصهيوني الرجعي وامتداده في لبنان لحتمية السير بتسويات مع المعسكر المناهض للهيمنة نتيجة عجزه عن حسم الصراع لصالحه وحتى عندما سعى هذا المعسكر لتدمير سورية نجح محور المقاومة في قلب التهديد إلى فرصة وفرض توازنات جديدة وكانت للمقاومة التي يقودها حزب الله مساهمة نوعية في صياغة التوازنات الجديدة وتركز بعدها الجهد الإستعماري الصهيوني الرجعي على الاحتواء عبر المساكنة السياسية بين المحورين.

الاحتواء هو خيار سياسي اميركي وغربي معتمد تقليديا في التعامل مع خصوم ( دول ام قوى سياسية ) يصعب شطبهم وهو ما يطبق في لبنان منذ مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري وقد برز بقوة عند تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام بقرار اميركي ألزم المملكة السعودية بإسقاط الفيتو على مشاركة حزب الله في الحكومات اللبنانية.

عندما تترسخ لدى الولايات المتحدة قراءة لميزان القوى تفيد باستحالة فرض السيطرة الكاملة تلجأ لإلزام الدائرين في فلكها من الحكومات الإقليمية والقوى المحلية بجدوى المساكنة كأداة تعطيل واعتراض بدلا من الهيمنة الكلية ويقوم التعامل الأميركي إذاك على محاولات مستمرة للإخلال التدريجي بالتوازنات داخل صيغ المساكنة السياسية بحيث تثار باستمرار مشكلات وتناقضات تعطل أي فعل هجومي للقوى المناهضة للهيمنة أي لمحور المقاومة وتستنزف طاقة هذا المحور بالقدر المتاح بحيث تربكه بمزيد من المستجدات والوقائع المتغيرة.

لا مساكنة أزلية ولا تسويات مؤبدة في العرف الأميركي بل مراعاة مرحلية للتوازنات إلى حين التقاط فرص جديدة لاختبار زعزعتها مجددا وقد ارتأت المؤسسة الحاكمة الأميركية في السنوات الأخيرة ان المغامرة بنفوذها في العراق ولبنان نتيجة تطرف عملائها الإقليميين وربيتها إسرائيل والمرتبطين بها محليا بالتصميم على قيام حكومات تابعة لهيمنتها ونابذة للقوى الوطنية والشعبية المنتمية إلى محور المقاومة قد تكون ثمرتها اقتلاع نفوذها كليا من البلدين كما سبق ان قال السفير السابق في لبنان ديفيد هيل لقيادات الرابع عشر من آذار التي التقاها بعد أشهر من تكليف الرئيس تمام سلام بتشكيل الحكومة عام 2013.

تفرض المساكنة بقواعدها ونتيجة البنى السياسية الطائفية تنازلات على محور المقاومة المحكوم بجوار إلزامي لخصمه الاستراتيجي داخل الحكومات والبرلمان وبصورة يصبح معها الاستقلال وهما وغاية بعيدة المنال لأنه خاضع للتسويات فتطل معالم النفوذ الأميركي والغربي والسعودي من ثنايا التركيبة السياسية للسلطة ونهجها المرتبك وسياستها الخارجية التائهة بين المحورين.

ببساطة وكحصيلة للوصاية التي تجسدها المساكنة بين المحورين ممنوع اليوم على لبنان القيام بخطوات واسعة من التنسيق مع الشقيقة سورية وممنوع على لبنان تنويع مصادر تسليح الجيش اللبناني المفروض تركه بالمقابل رهينة البرامج الأميركية للمساعدة والتدريب بكل مخاطرها الأمنية وممنوع على لبنان اعتماد توجهات اقتصادية تناسب مصالحه الفعلية من خلال علاقة حية وتكاملية بالمحور الشرقي الصاعد انطلاقا من الشقيقة سورية وهذه الممنوعات يتقيد الفريق الوطني داخل السلطة بها وينضبط ضمن حدودها لعدم تعريض المساكنة للاهتزاز وتحمل التبعات والمخاطر السياسية والأمنية بينما تعتبرها الولايات المتحدة إنجازات ثمينة مقارنة بالشر المستطير نتيجة تحول لبنان إلى شريك كامل في محور المقاومة بعد حوالي عشرين عاما من اختبارات القوة الفاشلة لاسترجاع الهيمنة الكلية منذ التحرير الكبير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى