بقلم غالب قنديل

حدود التفاهم الروسي الأميركي

غالب قنديل

كانت الخشية من الاشتباك الكبير في سورية هي الدافع الرئيسي الذي برر به الخبراء الأميركيون تفاهمات هامبورغ بين الرئيسين الروسي والأميركي وشرحوا بناء عليه إجماع المؤسسة الحاكمة الأميركية على دعم الرئيس ترامب في خطوة كانت محظورة عليه ولوحق بالاتهامات والتحقيقات لمنعها منذ انتخابه وبعد اضطراره لتنحية مستشاره الأقرب الجنرال مايكل فلين المتهم بلقاء مسؤولين روس خلال الحملة الانتخابية.

التفاهم على تقنين عدم الاشتباك لم يعد ممكنا عمليا في حدود آليات التنسيق التي سبق ان توصلت إليها القيادة الروسية مع إدارة أوباما منذ تدخل القوات الروسية في القتال إلى جانب الجيش العربي السوري وحلفائه وهي رحلة شهدت تقلبات أميركية عديدة نتيجة الصراعات المحتدمة داخل المؤسسة الحاكمة ومحورها صعوبة التسليم بانهيار الهيمنة الإمبراطورية الأحادية على العالم والاعتراف بصعود القوة الروسية كرأس حربة لحلف شرقي صاعد يضم الصين وإيران وروسيا والدولة الوطنية السورية والمقاومة اللبنانية ويتقدم نحو ضم العراق ولبنان واليمن إلى مجاله الحيوي الاستراتيجي والاقتصادي كما يتطلع إلى مواقع اخرى في آسيا وأفريقيا ناهيك عن الطموحات الروسية المعروفة في اوروبا الشرقية والوسطى لاسترجاع المجال الحيوي السلافي والأرثوذكسي للإمبراطورية الروسية.

الجبهة الجنوبية الغربية هي اولوية اميركية في تدابير منع الاشتباك بسبب حيوية ما يمثله الكيان الصهيوني والنظام الأردني للاستراتيجيات الأميركية في المنطقة ومنها انطلق خطر التصادم الوشيك مع الجيش العربي السوري وحلفائه من المقاومة وروسيا وإيران وخصوصا منذ الغارات الأميركية وإسقاط الطائرة السورية ومع التدخلات الصهيونية الداعمة لعصابات القاعدة وداعش وفي هذه الجبهة نجح الجيش العربي السوري وحلفاؤه في إلحاق الهزيمة بالعصابات العميلة التي دربت في الأردن وتلقت الدعم والمساندة من المخابرات الصهيونية وتم تمويلها من الرياض والدوحة وقد جعلت هزائم الموجات المتلاحقة من عصابات العملاء والمرتزقة في جنوب سورية المخططين الأميركيين يائسين من محاولاتهم الحثيثة لاستيلاد أهداف ممكنة التحقيق عسكريا او سياسيا في هذه المنطقة فالتصدع والتناحر والتضعضع امام الجيش العربي السوري هو الواقع الذي يتوسع على الأرض رغم جميع المحاولات.

التحولات الأخيرة جعلت اليأس من تحقيق الإنجازات أشد قوة وسطوعا باعتراف مواقع التخطيط الأميركية بعدما أسقط الجيش العربي السوري وحلفاؤه الخط الحمر الأميركي الرئيسي واندفع نحو الحدود العراقية بينما تقدم بسرعة في عمق البادية وريف الرقة الجنوبي وبات قريبا من فك الحصار عن دير الزور وهو ما سيجعله قادرا على حسم سريع عسكريا في الجنوب الغربي ناهيك عن المكتسبات السورية الاستراتيجية والاقتصادية الضخمة من هذه الحركة النوعية للقوات المسلحة السورية وحلفائها.

التجميد هو الخيار الأقل كلفة للولايات المتحدة وعملائها وهو لا يشمل ريف دمشق ولا مواقع عصابات الإرهاب أوعمليات الجيش العربي السوري ضد معاقلها بينما كان التسليم الأميركي بدور الشرطة العسكرية الروسية في المراقبة والمتابعة وهذا وضع ميداني سيتيح تقدم دينامية المصالحات وعودة سيطرة الدولة الوطنية إلى مزيد من المناطق السورية خصوصا مع المطالبة الأردنية بعودة الجيش العربي السوري إلى البوابات والمعابر الحدودية لتلافي خطر انتقال وتسلل المجموعات الداعشية الهاربة من الرقة ودير الزور إلى الأردن وهو خطر ينذر بتقويض الداخل الأردني وفق تقديرات اميركية معلنة حول حجم تواجد داعش والقاعدة في الداخل الأردني وإحكام السيطرة على الحدود قبل تحرير دير الزور والرقة من داعش سيفرض تنسيقا مباشرا مع دمشق لا يمكن للفيتو الأميركي الخليجي منعه هذه المرة.

اما عن التململ الصهيوني الذي عبرت عنه تصريحات نتنياهو من باريس فمرده ان التفاهمات لم تتضمن أي التزامات عملية تلبي الشروط الصهيونية المحكي عنها في وسائل الإعلام وقد عبر العديد من الخبراء والمعلقين الصهاينة عن القلق من استثمار الجيش العربي السوري وحلفائه للوضع الجديد وإحكام السيطرة على المناطق التي تتواجد فيها مجموعات تربطها علاقات وثيقة مع المخابرات الصهيونية وشبهوا وضع المناطق الجنوبية الغربية بعد تفاهمات هامبورغ بما آل إليه جنوب لبنان بعد القرار 1701.

روسيا تعرف حدود قدرتها على الالتزام نيابة عن الدولة الوطنية السورية وهي تنسق عمليا في كل شاردة وواردة مع دمشق التي لها رؤيتها القومية والوطنية للصراع مع الكيان الصهيوني ولذلك سعى لافروف لطمأنة تل أبيب في تصريحه الأخير بتعهد روسي ولم يزعم ان في جعبته التزاما بتدابير محددة من سورية او من حلفائها الأقربين إيران وحزب الله لضمان امن الاحتلال في الجولان الذي تجاهر سورية ومحورها بالنضال لتحريره بجميع الوسائل.

اتفاق وقف القتال في الجنوب الغربي يشمل تجميد التدخلات العسكرية الصهيونية والأميركية وهو ما يزعج تل أبيب لأنه يفقدها ورقة الضغط الميدانية التي تمسكت بها منذ انطلاق العدوان على سورية اما السؤال هل يتطور هذا التفاهم الروسي الأميركي من صيغة عدم الاشتباك إلى ما يحكى عن تفاهمات شاملة حول سورية تتضمن بنودا سياسية واقتصادية فالأكيد ان للدولة السورية مواقفها وشروطها السيادية في التعامل مع سائر الملفات والتقدير العلمي لحدود قابلية واشنطن ما يزال مجسدا بعبارة الرئيس بوتين : “الموقف الأمريكي تجاه سورية لم يتغير لكنه أصبح أكثر براغماتية”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى