التسوية الصعبة والثورة المتعذرة
غالب قنديل
الاستعصاء السياسي الذي يحكم الجدل في قانون الانتخاب الجديد ويدور في حلقة مفرغة تحفزها عصبيات طائفية ومذهبية طائشة في كل مكان من البلد وهو ميزة صاحبت مخاض التسويات اللبنانية وطالما تكفل التخندق الطائفي والمذهبي بقتل وإجهاض فرص التقدم إلى تطوير الحياة السياسية وإصلاح النظام السياسي الطائفي الذي يتبارى الجميع في هجائه وهم واقعيا يتعبدون له ويعملون على تأبيده مع تعديله لمصلحة هذا الفريق او ذاك وهنا يقع الاختلاف.
يدرك الجميع في خلدهم ان نظامنا السياسي هو في الواقع نظام عنصري تمييزي مناقض لحقوق الإنسان ومبني على التفرقة بسبب المعتقد الديني الذي لا يختاره المواطنون اللبنانيون بل يرثونه عن عائلاتهم ويرسخه في حياتهم نظام متخلف للأحوال الشخصية ونظام تعليمي مذهبي وقانون طائفي للتمثيل النيابي والسياسي ونمط متخلف ورجعي من العلاقات السياسية الاجتماعية وبنيان متخلف وعفن للإدارات العامة يحشر المواطنين في العلب الطائفية المذهبية التي هي شرط حصولهم على الوظيفة العامة أوانتفاعهم من توزيع الريع الناتج من نظام تقسيم المغانم على أساس طائفي وسياسي مما يجعل الانتماء للعصبية شرطا لنيل حصة أو مكانة على الصعيدين الفردي والجماعي.
كسر هذه الحلقة المفرغة هو الأدعى إلى ثورة شعبية تفرض عقدا تأسيسيا جديدا ولكن الحاصل فعليا ان الشعب الممزق إلى طوائف ومذاهب عاجز حتى الساعة عن الثورة بل هو قاعد عن مجرد الاحتجاج ورفع الصوت إلا نخب معزولة وضئيلة رغم اشتداد الأزمات الطاحنة من حولنا في جميع المجالات والمستويات فقد بلغ الاهتراء العام درجة غير مسبوقة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ونظريا بات الانتقال إلى بناء سلطة سياسية جديدة قادرة على بناء دولة وطنية قوية ومدنية تحقق التنمية والعدالة الاجتماعية شرطا تاريخيا لا بد منه لتخطي مستنقع التخلف والانقسامات المتجددة والتفاوت الطبقي الحاد والخطير.
تبادلت الطوائف مواقع الشكوى من الغبن والتمييز في تاريخ صيغة الحكم الطائفية واستثمر الزعماء السياسيون على تعميق الهوة بين الناس وشحن العصبيات ليشدوا الوثاق على جمهور خاضوا به معاركهم بل وحروبهم الأهلية المدمرة وهو ما حول الحياة السياسية إلى خضات متعاقبة في زمني السلم والحرب وأباح البلاد امام التدخلات الخارجية وكان أخطرها الاحتلال الصهيوني الذي لم يدحر بغير المقاومة الشعبية والمسلحة التي ما زال معظم اهل النظام الطائفي يرفضون الاعتراف بها أولها بما انجزته تاريخيا رغم تآمرهم وتواطئهم عليها في عقود من النزيف والتضحيات توجها المقاومون في صد غزوة التكفير الرديفة للعدوان الصهيوني وسط نكران وجحود مستمرين حتى الساعة رغم الحقائق التي تفقأ العيون إلا في الوجوه الكالحة لتكايا مسرح الدمى اللبناني التافه والتابع للغرب.
التسوية بين أطراف النظام المتطاحنين على الأحجام التمثيلية الطائفية تبدو نظريا هي المخرج لكنها شبه مستعصية ومؤجلة لنشوب صراع يظهر القدرة على الإطاحة بكل ما هو وطني من المعايير والقيم والحسابات الذاهبة نحو الإيغال في عالم العصبيات المشحون وفي هذا المناخ فتحت شهية خصوم التحول نحو النسبية على فرض التمديد القسري ومنع الانتخابات بعد استنفاذ المهلة الأخيرة التي أتاحها القرار الرئاسي بتعليق الجلسات البرلمانية .
إن تحقيق تسوية تتيح انتقالا نحو صيغة تقدمية قابلة للحياة والتطور يتطلب العودة إلى نظام المجلسين وتشكيل الهيئة العليا لإلغاء الطائفية برئاسة رئيس الجمهورية لمباشرة تحويل المقترحات الدستورية الإصلاحية وإصدارها تباعا ولإدخال البلاد في ورشة حوار إصلاحية شاملة.
بمنطق التسوية الانتقالية قد يتاح قبول استمرار الصيغة الطائفية لمجلس منتخب في الدائرة الواحدة وبالنظام النسبي إلى جانب مجلس للشيوخ بالنظام الأكثري وفي الدائرة الفردية مع أجل زمني لإلغاء قاعدة التمثيل الطائفي في البرلمان بقانون دستوري ولو دقق المتمسكون بالطائفية لوجدوا انها ليست ضمانة لأحد بل هي عقبة في وجه المساواة في المواطنة التي هي الضمانة الفعلية للجميع اجتماعيا وسياسيا.
بقدر ما تبدو الثورة الشعبية لتأسيس جمهورية مدنية متعذرة فإن التسوية الصعبة تقتضي جهدا حثيثا يخرج النقاش من الغرف المغلقة الغارقة في إحصاء المقاعد قبل الاقتراع ويقينا إن التمديد لو وقع سيقود إلى اضطراب سياسي خطير قد يفجر كثيرا من التناقضات الكامنة تحت سطح الخمود الشعبي الظاهر.