بقلم غالب قنديل

صعود ترامب وكلفة الحروب

غالب قنديل

ثمة شيء ما يجري في قلب النخبة الأميركية الحاكمة تكشفه الانتخابات التمهيدية التي وصفت نتائجها المتراكمة يوم امس بالمفاجاة وأثارت ذهولا كبيرا في قلب اليمين الجمهوري التقليدي وبيرقراطية الحزب الجمهوري فقد وضعت النتائج الكاسحة المتلاحقة للمرشح دونالد ترامب نهاية لرهانات إدارة الحزب على منع تكريس ترشيحه باسم الجمهوريين واعترف رئيس الحزب بتلك الحقيقة داعيا إلى الانتقال لدعم دونالد ترامب كمرشح رسمي للحزب الجمهوري إلى الانتخابات الرئاسية ناعيا حملة ” لا لترامب ” وعلى الأقل داعيا لوقفها بعدما اظهر الجمهوريون بغالبيتهم مساندتهم الواضحة لتوجهات ترامب التي تعكس الصدى العميق لتأثير الغزوات والحروب الأميركية الفاشلة خلال ستة عشر عاما متواصلة وتأثيرات الركود الاقتصادي ومتاعب شيخوخة البنية التحتية الأميركية ومشاكل البطالة ومنافسة العمالة المهاجرة وسوى ذلك من المواضيع والعناوين التي لخصها بعض المعلقين الأميركيين بالدعوة إلى الانصراف لمعالجة المشاكل الأميركية المتضخمة ونعتها عدد منهم بالتبني الصريح لنزعة انعزالية عرفتها السياسة الأميركية في مطلع القرن الماضي .

آثار الهزائم والفشل في المغامرات الاستعمارية الأميركية فرضت بصمتها في خطب ترامب الذي تناول بصراحة ورطتي العراق وأفغانستان اللتان اعتبرهما بداية انحدار كبير في القدرة والمكانة العالمية للولايات المتحدة وهو حتى حين كان يدين دور منافسته المقبلة هيلاري كلينتون في هاتين المغامرتين الخاسرتين والمكلفتين كان يخوض نقاشا حاميا ضد النخب الجمهورية التي تصدرت حزب الحرب الأميركي وقادت حروب بوش الإبن وشاركت في أضخم آلة نهب استعمارية عرفها العالم المعاصر ولم تستطع حجب حقيقة خسارة الولايات المتحدة لتريليونات الدولارات ولهيبة القوة العظمى المهيمنة في العالم .

وصف دونالد ترامب بانه متمرد على المؤسسة الجمهورية ويشبه كثيرون حالته بصعود دونالد ريغان الذي صعد واقعيا على اكتاف عصابة المحافظين التي ضمت آنذاك ديك تشيني وجورج بوش الأب ودونالد رامسفيلد وسواهم وهو بذلك كان واجهة معلنة لكتلة هامة من بيرقراطية اليمين وقيادته الحزبية اما ترامب فقد انطلق من خارج هذا الإطار وهو ما يعبر عن نزعة تصادمية في اوساط رجال الأعمال ضد الواقع الاقتصادي السيء والمتدهور الذي تحمل مسؤوليته قيادات اليمين الأميركي التي حكمت مع دبليو بوش ثماني سنوات من الفشل والخسائر والركود الذي ما يزال مهيمنا رغم جميع مساعي باراك اوباما وإدارته التي أفرغت المليارات في خزائن المصارف وشركات الأموال منذ عام 2008 .

الكتلة التي يعبر عنها ترامب في أوساط المال والأعمال اليمينية والمحافظة في الولايات المتحدة تريد إدارة تصرف جل جهودها لترميم الاقتصاد الأميركي ولحمايته من الداخل ومنع التورط في حروب عسكرية جديدة وهذا لايعني تحول الوحش الاستعماري إلى حمل وديع بل وقف مصادر الاستنزاف وتعديل قواعد العلاقة مع الشركاء والحلفاء في اوروبا ومنطقتنا وسائر انحاء العالم وهذا ما يفسر كلمات ترامب القاسية عن المملكة السعودية وتدفيعها كلفة الحماية الأميركية وعن اوروبا وتحميلها تكاليف وأعباء توضع قوات اميركية على أراضيها ضمن ترتيبات الناتو الدفاعية وكذلك لا بد من قراءة دعوة ترامب للبحث في السبل التي يمكن عبرها تقنين المساكنة مع القوتين الروسية والصينية وسائر القوى الصاعدة في العالم وهذا ما يفسر مغازلته الخافتة للرئيس فلاديمير بوتين.

خطاب جديد لليمين الأميركي يلتحق به الجمهوريون بعدما استطاع كسب ولاء غالبية القاعدة الحزبية وسقطت امامه مواقع القوة البيرقراطية التي حشدت لإسقاطه وشرعت تعلن استسلامها تماما إنها كلفة الهزائم الأميركية وهي بالطبع لاتبشر شعوب العالم بسياسات أميركية منزوعة الأنياب والأظافر لكنها تعلن بدء سنوات من الانكفاء نحو الداخل الأميركي وتراجعا نسبيا لنزعة الغزو العسكري بحيث تتبلور سياسات اميركية جديدة لا تقل خطورة عن سابقاتها بل إنها قد تزيد عنها خبثا لكنه التغيير الذي تفرضه كلفة الحروب ونتائج العولمة المالية والاقتصادية بما تحمله من تحديات ومخاطر تقود إلى ظهور الحمائية التي تكرر ذكرها في خطب ترامب من ساحات المدن الأميركية التي يعيش عمالها تحت وطأة الضيق والبطالة والفقر وتشهد أسواقها طوفانا إغراقيا للسلع الصينية .

نتائج الانتخابات التمهيدية الأميركية تجزم بسقوط الرهان السعودي التركي القطري على رئيس أميركي جمهوري عدواني يشن غزوا عسكريا شاملا ضد سورية وينفذ الحرب التي تراجع عنها باراك اوباما لاحتلال سورية وبالتالي يمكن ان يشتبك مع روسيا والصين وإيران إذا اقتضى الأمر لإنقاذ هذا الثلاثي الإقليمي الفاشل وشريكته إسرائيل الخائبة والمردوعة إنه الرهان الذي سقط سواء فازت هيلاري كلينتون ام كان دونالد ترامب هو الرئيس الأميركي الجديد مطلع العام المقبل فحقائق التاريخ العنيدة أقوى وأعنف من التمنيات والهلوسات السياسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى