بقلم غالب قنديل

لبنان والإعصار القادم

غالب قنديل

يترنح النظام اللبناني الطائفي الريعي منذ سنوات على إيقاع تغييرات كبرى تراكم تحولا قاهرا في البيئة الدولية والإقليمية سياسيا واقتصاديا لم يعد ممكنا معها صمود صيغة الحكم التي أنتجها اتفاق الطائف بنسختيه منذ الرعاية السورية لتنفيذ الاتفاق حتى العام 2005 ومنذ ذلك العام حتى اليوم وهي السنوات الأخيرة التي بلغ فيها النظام القائم ذروة التعفن والانكشاف.

مع تراجع الفورة النفطية وتقلص فرص الاغتراب تسجل الوقائع الاقتصادية والمالية ميلا بنيويا لتراجع هامش الثروة المتنازع عليه في الاقتصاد الريعي التابع للهيمنة الغربية الخليجية بواسطة الحريرية ونظامها الذي جرى تثبيته منذ التسعينيات ولم يخضع لأي مراجعة واقعية بل شهد أشرس تدمير منهجي لقطاعات الإنتاج المهمشة وفوت فرصا ثمينة للتنمية والتطور ولإعادة هيكلة الموقع الإقليمي للبلاد.

إن إعصارا عالميا وإقليميا يتجمع في فضاء لبنان وهو يطرح العديد من التحديات والأسئلة المصيرية التي تواجه أي باحث يتحلى بالقليل من الحصافة العلمية في تصور آفاق المصالح الوطنية اللبنانية خلال السنوات القريبة المقبلة :

اولا ماذا سيفعل لبنان ليواجه تأثيرات قانون انتقال مركز الثروة في العالم من الغرب إلى الشرق ؟ هذا القانون الذي كتبت حوله دراسات وتقارير اميركية واوروبية عديدة تناولت نتائج صعود القوى الاقتصادية الجديدة الناهضة في العالم منذ ظهور كتلة البريكس وتوجهها بقيادة الصين وروسيا وبشراكتهما مع الهند وجنوب أفريقيا وإيران وسواها لفرض تعديلات هيكلية على العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية وحيث يبدو واضحا ان دول الغرب الصناعي التي تواجه حالة ممتدة من الركود الاقتصادي مرشحة للدوام لسنوات قادمة غير قليلة تراهن على حجز حصص ولو قليلة من ثروات الشرق الصاعد لترميم اوضاعها المتداعية بعد تقهقر موقعها في سلم التصنيف الدولي لموارد إنتاج الثروة وللسيطرة الاقتصادية على العالم بل ومع دخول دول غربية عديدة عصر الاضطراب الاجتماعي والسياسي نتيجة تداعيات هذه الازمة المرشحة للاستمرار إلى أمد غير قصير.

ثانيا ماذا سيفعل لبنان في مرحلة تراجع أسعار النفط ودخول الدول الخليجية مرحلة من الانكماش وتراجع الفرص بفعل تحديات ما بعد الفورة النفطية التي تفرض عليها التكيف الصعب مع تراجع الفوائض المالية العملاقة وإعادة النظر في بنيانها الاقتصادي الأحادي الذي هزه التراجع النفطي بعد استسلامها للوفرة الآفلة بالقعود عن اولوية تنويع موارد ثرواتها نتيجة تبعيتها الصارمة للهيمنة الغربية وتبديدها لموارد خيالية في خدمة المشاريع الأميركية في المنطقة وانصرافها لتمويل حروب وغزوات خطط لها القادة الأميركيون على امتداد ما يزيد على ثلاثين عاما مضت منذ الحرب الأفغانية الأولى وحروب القاعدة وحروب العراق المتعاقبة ومن الحرب على إيران في الثمانينات من القرن الماضي حتى الحرب على سورية خلال السنوات الخمس الماضية ولمحاولات تطويق المقاومة في لبنان وفلسطين.

ثالثا ماذا سيفعل لبنان مع انتهاء الحقبة السعودية واقعيا بالفشل المبرم لخيار التسوية الاستسلامية مع الكيان الصهيوني بعدما بلغت القوة العسكرية الصهيونية مأزقها الكبير أمام المقاومة اللبنانية والفلسطينية وعجزت عن استرداد ما خسرته منذ هروبها من لبنان عام 2000 حيث لم تفلح حروبها اللاحقة باعتراف قادتها في تعديل التوازنات ورغم كل ما قامت به حكومات عربية عديدة من سعي لضرب محور المقاومة والنيل منه في حروب الإرهاب والتكفير.

وليس ادل على هذه التحولات التاريخية الكبرى في البيئة الإقليمية من انتفاضة فلسطين المتجددة وظهور المقاومة الجديدة والفتية واعتراف وزير الحرب موشي يعلون بسقوط نظرية الحرب الخاطفة امام قوة حزب الله في لبنان وإعلان القادة والخبراء الصهاينة عجزا كليا عن النيل من الانتفاضة الثالثة والمقاومة الجديدة.

رابعا ماذا سيفعل لبنان مع القوة الإيرانية الصاعدة في الإقليم ومع تحولات الحرب على سورية التي ترجح عودة غير بعيدة لدور سوري كبير اقتصاديا وسياسيا وعسكريا في المنطقة وحيث لا تصلح محاولات التحايل الحربائي لحجز حصة في ورشة إعادة بناء سورية بعد الحرب لجميع من شاركوا في تدمير سورية والتآمر عليها وحيث اكد الرئيس بشار الأسد ان شركاء الصمود هم شركاء البناء بعد الحرب وكيف يستطيع لبنان وبأي حكومة وبأي صيغة حكم ان يحجز موقعا في أضخم ورشة اقتصادية ستشهدها المنطقة في سورية والعراق وبأي سياسة وخيارات إقليمية تتبناها السلطات اللبنانية.

خامسا ماذا سيفعل لبنان للتعامل مع تبلور محور شرقي عملاق ممتد من الصين وروسيا وإيران فالعراق وسورية وبما سيحمله من أسواق مشتركة وخطوط نفط وغاز وسكك حديد وشبكات إمداد كهربائية تتغذى من محطات عملاقة لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية ضمن رزمة طريق الحرير الجديد الذي وصل قطاره إلى إيران مؤخرا فهل يختار ان يكون معقلا منعزلا لخصوم هذا التكتل في الغرب ام يسلك الطريق الطبيعي ليكون جزءا منه ومن هي الجهات اللبنانية القادرة على قيادة انتقال لبنان من حقبة الهيمنة الغربية إلى مرحلة جديدة تتيح له استقلالا فعليا عن منظومة الهيمنة الغربية التي تشير الوقائع إلى تقلص نفوذها وضمور الحجم السياسي والاقتصادي لذراعها السعودي الحاضر عضويا في لبنان منذ عام 1943 بقوته المالية والسياسية المتراجعة.

سادسا  الاستنتاج البديهي ان صيغ المواقف المائعة والخيارات التلفيقية الرمادية لن تكون صالحة في المستقبل القريب وكل إجابة متزنة على هذه الأسئلة تحتم تغييرا سياسيا شاملا في الواقع اللبناني تقوم بداية على ملاقاة الضرورة التاريخية لكنس صيغة الحكم الطائفي والسير في اتجاه قيام الدولة المدنية الوطنية الحديثة التي تتبنى المقاومة نهجا واضحا وتبني جيشا قويا يشاركها معادلات الدفاع والردع ضد الكيان الصهيوني والتهديد الإرهابي فلا مكان في المرحلة المقبلة للعبارات الزائفة والمتلعثمة امام إعصار التغيير القادم وما لم يتاهل الواقع السياسي بانتخابات نيابية على أساس القانون النسبي فضغط الإعصار على الداخل لن يكون بسيطا ومصاعب التكيف ستكون أعلى كلفة على الجميع لاسيما إذا استمرت البطالة الفكرية وتمادى الخواء الثقافي في البنى السياسية وتعسرت ولادة قوى وطنية طليعية تلاقي الفرص الوافرة للتقدم التي يتيحها التغيير القادم في العالم والمنطقة على السواء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى