بقلم غالب قنديل

الانفصام الإعلامي والإرهاب التكفيري

da33

غالب قنديل

في ظاهر التوافقات السياسية اللبنانية تسليم بأن البلاد، شعباً ودولة، تخوض مواجهة ضد العدوان الذي تشنه عليها عصابات التكفير الإرهابية التي تحتجز الجنود والعسكريين اللبنانيين وتهاجم مواقع الجيش اللبناني، وتهدد أمن المواطنين بجرائمها التي طاولت المواطنين في بلدات وقرى وأحياء لبنانية عدة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة.

أولاً، هذه المعركة الوجودية التي يخوضها الجيش اللبناني دفاعاً عن الوطن تفترض حشد جميع الطاقات خلف الجيش وتملي واجبات سياسية وتعبوية على جميع مؤسسات الإعلام اللبنانية، وعلى جميع الإعلاميات والإعلاميين، بصفتهم مواطنات ومواطنين أولاً وأخيراً، وهو ما يوجب مخاطبة الرأي العام بالمضمون الذي يساند الجيش ويدعم جهوده في مكافحة الإرهاب، وبما يفضح حقيقة جماعات التكفير الإرهابية كقوى إلغائية تدميرية. وهو أمر يتخطى بكثير حدود الإشادة اللفظية بالتضحيات التي يقدمها الجيش والقوى الأمنية من الشهداء والجرحى والأسرى في القتال الجاري وفي العمليات الأمنية الهادفة لمطاردة خلايا الإرهاب في عمق البلاد.

يبدو الإعلام اللبناني في نسبة لا يستهان بها من منابره في حالة انفصام خطير تناقض مبدأ حسم الخيار الوطني دفاعاً عن الوطن المهدد بوجوده وبمؤسساته أمام الخطر الذي بات العالم بأسره يعترف بوجوده وبأولويته الحاسمة وحتى الحكومات المتورطة في العدوان على سورية التي دعمت ومولت الجماعات الإرهابية باتت منشغلة بالتصدي لخطر ارتداد الإرهابيين إليها وتخشى جميع تلك الحكومات انتقال المنصات التي أقامتها لاحتضانهم ولتجهيزهم ولإرسالهم إلى المنطقة للتفعيل والحركة بعد العمليات الإجرامية التي هزت دولاً عدة في أوروبا.

ثانياً، بعض الإعلام اللبناني مصمم على تحاشي توصيف الجماعات والعصابات الإجرامية في لبنان بالإرهاب، وحتى حين يفعل يقدمها هي ذاتها بلغة ترويجية ودعائية تحت مسمى مسلحي المعارضة في الأخبار والحوارات التي تتناول الوضع السوري وهذه اللعبة لا تنطلي على المتلقي العادي الذي تنقل إليه بيانات «داعش» و«النصرة» وغيرهما من القوى الإرهابية في سورية على أنها مواقف صادرة عن جماعات معارضة. وهاتان المنظمتان خصوصاً هما العدو الذي يتصدى له الجيش اللبناني في جرود السلسلة الشرقية.

لا يقف هذا الانفصام غير البريء عند حدود التعامل مع التسميات، فتحت ستار السبق الإعلامي تتولى محطات تلفزيونية وإذاعية لبنانية تعميم خطاب الجماعات التكفيرية وتلاحق أشرطتها الموزعة بواسطة مواقع التواصل الاجتماعي، بما فيها المخصصة لترويع اللبنانيين، وتتباهى بإعادة بثها في ترويج غير مباشر لمضمونها. وأحياناً كثيرة يورط السبق المتخيل بدافع الإثارة واستجرار المشاهدين والمستمعين والقراء أصحابه في خدمات مجانية للخصوم المفترضين، كما تنجرف بعض الوسائل في مواكبة ونقل حملات جماعات الإرهاب حول المعارك التي تخوضها ضد الدولة الوطنية السورية والشعب السوري وتتبنى توصيفاتها ومزاعمها بصورة تستدر التعاطف وتناقض الحاجة الأكيدة لتعرية هذه الجماعات وفضح طابعها الإجرامي الذي يتبدى هو ذاته في لبنان كما في سورية.

ثالثاً، يبدو هذا الانفصام مدبراً وغير بريء مع التمادي والإصرار على رغم الملاحظات والانتقادات والتنبيهات المتكررة. بينما يتساءل المتابع العادي كيف تكون «داعش» و«جبهة النصرة» هما العدو في سلسلة لبنان الشرقية تبعاً لبيانات قيادة الجيش التي تنقلها وسائل الإعلام اللبنانية وعلى مسافة ثوان معدودة في ذات السياق الإخباري التلفزيوني والإذاعي تقدم المنظمتان وشريكاتهما من فصائل الإرهاب بثوب معارضة تحارب «نظاماً يلقي البراميل على المناطق السكنية» وفق حرفية الرواية المزعومة التي يروجها هؤلاء الإرهابيون أنفسهم والمتبناة من وسائل إعلامية لبنانية.

إن بعض ما تبثه وتنشره وسائل الإعلام اللبنانية عن محاربي الجماعات الإرهابية في سورية لا تنقصه سوى استعارة توصيف الرئيس الأسبق رونالد ريغان لمحاربي «القاعدة» و«طالبان» قبل أكثر من ثلاثين عاماً « فرسان الحرية»، وكان يومها في عداد من استقبلهم أبو عايشة الذي قاد القتال ضد الجيش اللبناني في جرود الضنية في أول أيام عام 2000 وقتل هناك وحضرت بعثة من FBI لتسأل في قصر العدل عن ظروف مقتل مواطن الشرف الأميركي بسام كنج الذي قلده الرئيس رونالد ريغان وساماً رفيعاً باسم الشعب الأميركي حمله معه إلى صفوف شبكة «القاعدة».

لا يستطيع أي من القيمين على تلك الوسائل الإعلامية تبرير هذا الانفصام المستنسخ عن لغة الدول التي تمول الإرهاب وتمده بأسباب البقاء كما تمول حملات التسويق الإعلامية المواكبة له!

رابعاً إذا كانت المعركة ضد الإرهاب واحدة في العالم وفي المنطقة فهي قبل كل شيء واحدة في سورية ولبنان، وإذا كانت الحكومة ممنوعة من التنسيق مع الحكومة السورية ومع الجيش العربي السوري بضغوط خارجية وبأحقاد وارتباطات يندفع أصحابها في اتصالات مع بعض جماعات التكفير بذرائع شتى فأضعف الإيمان أن يكون الإعلام اللبناني موضوعياً في توصيف الوقائع ومنسجماً في التعبئة خلف الجيش حتى لو تنكر البعض بدافع الكيد لدور المقاومة في حماية البلاد والعباد وهم يتعمدون طعنها في ظهرها في مجابهة التكفير كما فعلوا تماماً في معاركها ضد الاحتلال الصهيوني طيلة الأعوام المنقضية منذ الاجتياح الصهيوني عام 1982 أو أقله منذ حرب تموز 2006.

لا يدل تمادي مظاهر الانفصام على خلل في المعطيات والرؤية بقدر ما يبدو امتداداً لعلاقات ومصالح تربط بعض وسائل الإعلام بجهات إقليمية تجاهر باحتضان الإرهاب وكياناته وفصائله على الأرض السورية تتقدمها حكومات تركيا وقطر والسعودية. ومن المؤسف كلياً ومن مباعث المرارة أن تجري المقامرة بمتانة التضامن الوطني حول الجيش اللبناني في مجابهة التكفير الإرهابي بينما يتحول المشهد الإعلامي إلى سلسلة من التناقضات السريالية التي تثير العجب العجاب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى