القائد الشهيد عماد مغنيّة
غالب قنديل
التقرير الذي نشرته صحيفة الواشنطن بوست صباح السبت 31 كانون الثاني 2015 حول جريمة اغتيال القائد الشهيد عماد مغنية في دمشق يوم 12 شباط عام 2008 يتضمن كمية من المعلومات حول تنسيق وثيق بين المخابرات المركزية الأميركية والموساد الصهيوني في تخطيط الجريمة وتنفيذها ويروي التقرير ان خمسا وعشرين تجربة جرت في مصانع المتفجرات الأميركية لإعداد العبوة التي استعملت يومها لقتل الحاج عماد بينما تولى عملاء للمخابرات المركزية الأميركية حصة رئيسية من الرصد في دمشق وأديرت العملية لوجستيا من مكاتب قيادة الموساد في تل أبيب.
اولا هذه العملية لم تكن الأولى التي تستهدف القائد الشهيد فقد سبق لروبرت باير المسؤول السابق عن محطة المخابرات الأميركية في لبنان أن روى في كتابه الشهير: «سقوط CIA» كيف خطط غير مرة في الثمانينات لاغتيال الحاج عماد وتحدث عن اكثر من عملية فاشلة كان هو من يشرف عليها مباشرة وإحداها فشلت بسبب فخ نصبه القائد الشهيد بنفسه في لعبة أمنية ذكية كان يتقنها ويبدع فيها باعتراف هذا الضابط الأميركي الذي حاول اغتيال العلامة الكبير الراحل آية الله السيد محمد حسين فضل الله بمتفجرة بئر العبد بمعونة عملاء لبنانيين بعضهم كانوا في أجهزة رسمية لجمهورية الموز اللبنانية آنذاك.
روى باير أنه جند شخصا تربطه قرابة بالحاج عماد وأعده لتنفيذ الاغتيال في برج البراجنة بالضاحية الجنوبية وبينما كان ينتظر بفارغ الصبر تفجير القنبلة التي سلمها لعميله ورده اتصال هاتفي على رقمه الخاص والسري في بيروت قال فيه المتحدث ما معناه تعيش وتاكل غيرها مع تحيات الحاج عماد مغنية.
ثانيا القائد عماد مغنية ساهم في تأسيس المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الصهيوني وقد باشرها فتى يافعا بعد اجتياح العام 1978 في صفوف مناضلي الكتيبة الطلابية وفي العام 1982 انبرى لمقاومة الاجتياح الصهيوني الكبير لبلاده مع مجموعة من رفاقه ومجموعات وطنية قليلة العدد برزت لمقاتلة العدو بعدما انهارت فصائل ومنظمات وأحزاب فلسطينية ولبنانية كبرى، فكان الشاب النابغة عماد مغنية مع حفنة من رفاقه وحلفائهم في المقدمة، قاتلوا قوات العدو وعرقلوا تقدم جيش الاحتلال في أكثر من موقعة كانت أشهرها معركة خلدة البطولية التي قرر بعدها فورا الانتقال إلى بناء قوة مقاتلة سرية قادرة على دحر المحتلين من لبنان وقد رأى حلمه يتحقق في العام 2000 بعدما امضى من شبابه ثمانية عشر عاما في ميادين القتال وغرف القيادة والتخطيط ومعسكرات التدريب والإعداد وأذكر أنه أخبرني مرة في مطلع التسعينيات من القرن الماضي بمدى شغفه وفرحه في متابعته للعلوم العسكرية وإطلاعه عليها ليسخر تلك العلوم والخبرات الأكاديمية والتاريخية في بناء المقاومة الإسلامية التي تمكنت بإبداع خارق من قلب معادلات الشرق وتأسيس توازنات عالمية جديدة ولطالما أحسست كمناضل ماركسي ويساري بإعجاب كبير ولا يوصف بتفاني هذا القائد الجهادي الإسلامي فسميته غيفارا الشرق بعد غيابه ولم أشعر يوما في العلاقة معه ومع رفاقه في حزب الله بافتراق المسار النضالي والأهداف الوطنية الكبرى فهم يتصرفون وفق أخلاقياتهم الراقية باحترام شديد للتمايزات الفكرية والثقافية وبأولوية الانتماء النضالي دائما.
ثالثا أمضى الحاج عماد عمره منذ الثمانينات مطاردا من مخابرات الناتو وإسرائيل ومن حكومات عربية رجعية كثيرة ومن بينها أجهزة حكم 17 أيار في لبنان ومخبرون لبنانيون كثر بينهم ساسة وزعماء نعف عن تعدادهم حتى لا نعكر صفو حوارات ولقاءات تجري بأخلاقيات الصفح التي يمارسها حزب الله بحكمة عالية مترفعا عن جرائم من أشهروا سكاكين الغدر مرة تلو اخرى وذلك مما يقدر عاليا في سلوك الحزب المناقبي والأخلاقي وليته يقدر على نقل العدوى إلى ذوي الوجوه الكالحة التي تقطر سماً حتى حين تبتسم وتصافح لأن أصحابها يعرفون ما فعلوا بالبلد وبأهله وكم مرة تآمروا على الشعب والجيش والمقاومة.
وفقا للتقرير الأميركي المنشور اتخذ القرار بتنفيذ الجريمة في أعلى مستويات القيادة الأميركية (جورج دبليو بوش وأركان إدارته الكبار) وفي القيادة الإسرائيلية طبعا ولمن يتلاعب بذاكرة الناس فقد انطلقت خلال سنوات ما قبل الجريمة في لبنان والمنطقة حملة شيطنة إعلامية واسعة النطاق قادها جيفري فيلتمان ضد حزب الله وكلفت مئات ملايين الدولارات كما قال امام الكونغرس لاحقا.
شكل استهداف الحاج عماد شخصيا حلقة مركزية في مفردات تلك الحملة فنشرت في هذا السياق تقارير عديدة في وسائل إعلام صفراء لبنانية وخليجية وغربية وصدرت تصريحات لبنانية كثيرة ومن بعض ما يسمى بالصف الأول السياسي الذي يتحرك بإيعاز اميركي مباشر ونعرف جميعا أن الكلام اللبناني البلدي الشائع لتبجيل وتفخيم بعض الزعماء لا ينفي عنهم صفة الدمى حين يتعلق الأمر بتعليمات واشنطن وحلفائها المعروفين في المنطقة وبلغة الزعامات هي «تمنيات» يطيعونها بلا تردد حتى لو صفعتهم واشنطن أو قلبت الطاولات على رؤوسهم وأقفيتهم أو أهانت كراماتهم غير مرة فهم لا يرعوون عن عبوديتهم هكذا يقول التاريخ القريب والبعيد! تخوين؟ نعم بالتاكيد!
رابعا طبعا نورد ما تقدم لنثبت للتاريخ ولمن يقرأ أن بعض التصريحات والتقارير كانت جزءا من خطة رسمتها شبكة إجرامية أميركية صهيونية اغتالت القائد عماد مغنية وناشروها ومطلقوها كانوا مجرد أدوات صغيرة للأميركي والإسرائيلي كلفوا بتحضير المسرح لقتل أحد كبار رموز معركة تحرير لبنان من الاحتلال الصهيوني والوصاية الأميركية وإسقاط اتفاق 17 أيار وثم راحوا يصيحون : سيادة حرية استقلال!.
لا يخفي تقرير الواشنطن بوست حقيقة الدوافع التي أحاطت بقرار الاغتيال وهي ترتبط بمكانة هذا القائد المناضل في محور المقاومة أي جبهة سورية وإيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية والعراقية وبالتأكيد إن دور الحاج رضوان في حرب تموز 2006 كان حافزا كبيرا ونوعيا لتدبير الجريمة والمغامرة بتنفيذها بأي ثمن لأن تحطيم هيبة الردع الإسرائيلية وفقا لتقرير فينوغراد على يد المقاومة في تلك الحرب سدد ضربة قاتلة لمنظومة الهيمنة الاستعمارية في المنطقة وعماد المقاومة كان في صلب المنظومة التي نسجت كل ذلك التدبير الاستراتيجي المحكم لهزيمة إسرائيل مرة جديدة ولتدمير جبروتها بعد هروبها العظيم في العام 2000 وبعد الفشل الأميركي في العراق حيث كانت للقائد عماد مغنية مآثر كبرى في رعاية الجهد العراقي المقاوم ضد قوات الاحتلال الأميركي والمخابرات الصهيونية التي نشطت في ظلال المحتلين الأميركيين وتحت حمايتهم.
شهدنا في السنوات الماضية ومنذ وقوع جريمة الاغتيال جهدا استثنائيا من آلة القتل وعملائها السياسيين والإعلاميين في لبنان والمنطقة والعالم وبقيادة أميركية لتعميم اتهام سورية بقتل الحاج عماد ورمى طاقم من الزعامات اللبنانية بثقله كليا لتدعيم الاتهام الذي استهدف النيل من متانة التحالف بين المقاومة وسورية وليس فقط بقصد التمويه عن المجرم الحقيقي الذي عرفته المقاومة والدولة الوطنية السورية منذ اللحظة الأولى.
خامسا: كل ما جمع من وقائع في التحقيقات التي أجريت يدلل على شبكة غربية إسرائيلية تولت التخطيط والتنفيذ وكما كانت بوصلة الحاج عماد في فلسطين فقد كانت البوصلة في المسؤولية عن اغتياله هي إسرائيل ومعها حماتها المستعمرون الذين كانوا في حرب مفتوحة مع قائد مقاوم كبير ومناضل عربي عظيم كرس حياته منذ فتوته لمقارعة المستعمرين ولقضية فلسطين وفهم جميع قضايا المنطقة ولبنان انطلاقا من وعيه الاستثنائي لمحورية الصراع العربي الصهيوني الذي يتقرر فيه مستقبل الشرق وقد أريد من حملة التضليل التي أعقبت الجريمة حرمان القائد عماد مغنية بعد استشهاده من صفة البطل القومي للعروبة وللوطنية اللبنانية ولفلسطين بتصويره ضحية صراع بين الحلفاء وهو ما تكفل حزب الله بإفشاله فقد تعززت متانة التحالف بين المقاومة وسورية خلال هذه السنوات وهذه العلاقة التحالفية الوثيقة تحقق مزيدا من الإنجازات ومن ثمارها المعادلات الجديدة التي أعلن عنها سماحة السيد حسن نصرالله فقد أكمل المقاومون ما بدأه القائد الشهيد في مسار التحالف الاستراتيجي التكاملي الذي يرعاه كل من امين عام حزب الله ورئيس الجمهورية العربية السورية القائد المقاوم بشار الأسد.
من أعز محطات مسيرتي النضالية كانت معرفتي الشخصية بهذا الرمز العظيم لشعبنا العربي ولمقاومته وحركته التحررية وخلال لقاءاتنا القليلة والمتباعدة لسنوات أحسست بمسار نضجه وتبلور وعيه وكان دائما يقول بعد مناقشاتنا في شؤون لبنانية وعربية كثيرة: «يا صديقي دعك من كل التفاصيل المحلية التي قد تشتت انتباهنا فالجوهري في هذه المنطقة هو الصراع بيننا وبين الحلف الصهيوني الغربي هذا هو حلف الاستعمار الذي يدير كثيرا من القوى والحكومات والجهات التي نتحدث عنها فلنهتم بكيفية الانتصار على إسرائيل لنعجل في حل التناقضات الأخرى هذا هو التناقض الرئيسي وهنا هي المهمة المركزية والباقي تفاصيل فجهودنا يجب ان نسخرها لهذه الغاية لأننا لسنا في ترف الانصراف عنها إلى أي شيء آخر ولو تناولنا التحليل الخاص بجميع ساحات الصراع الإقليمية سوف تقودنا دائما إلى هذا الموضوع المركزي».
لم يكن الحاج عماد كما عرفته في تلك اللقاءات النادرة والمتباعدة التي كان يدبرها بأسلوبه الخاص ومن غير علمي المسبق يدعي أنه مفكر أو منظر لكن النقاش معه كان دائما غنيا فكريا وسياسيا ومحملا بهمه الذي صاحبه مقاوما وقائدا حيا وتركه لنا في ميراثه الكفاحي المشرف: كيف نحرر بلادنا من الهيمنة الاستعمارية الصهيونية فتلك هي البداية التي لا بد منها لكل حرية وهو ساهم في تأسيس البداية.