بقلم غالب قنديل

إيران في المسار الصيني

iran china

غالب قنديل

قبل حوالي أربعين عاماً شهد العالم تحولاً نوعياً تمثل بالتكيّف الأميركي الصعب مع القوة الصينية الصاعدة في أعقاب حروب ومواجهات وعقوبات وحصار اقتصادي وسياسي تفكك وانهار نتيجة صمود الصين الشعبية وتصاعد دورها الفاعل في محيطها المباشر من كوريا إلى فيتنام ولاوس وكمبوديا حيث واجهت الولايات المتحدة سلسلة من الهزائم والإخفاقات الاستراتيجية الكبرى التي كانت الحرب الفيتنامية أقساها وأشدها وطأة منذ حملة الفيتكونغ ضد قوات الاحتلال الأميركية في شتاء 1968 ومع انطلاق مفاوضات الخروج الأميركي في باريس.

حتى اليوم وبعد عقود من الرضوخ الأميركي لقبول الصين عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي تستمر التوترات السياسية بين الصين الشعبية والولايات المتحدة وفي طيات حرب تجارية كبرى تدفع المخططين الأميركيين لاعتبار الصين مصدر الخطر المستقبلي الأول على الإمبراطورية الأميركية.

النضال الذي خاضته إيران وحلفاؤها ضد الهيمنة الاستعمارية الصهيونية هو مضمون النزاع بين طهران وواشنطن في جميع المجالات ومن يسترجع مسار الانتقال الأميركي إلى اعتماد التفاوض مع إيران يجد في السنوات الأخيرة كمية من اختبارات القوة التي قادتها واشنطن في استكشاف فرص القضاء على القوة الإيرانية واستنزافها بدءاً من حرب تموز في لبنان وحروب غزة وصولاً إلى العدوان العالمي على سورية. وحيث نجحت إيران بصمودها خلال خمسة وثلاثين عاماً في وجه الحصار والعقوبات من مراكمة قوة عملاقة عسكرية واقتصادية مستقلة ومن تطوير تحالفات فاعلة بدءاً من الشراكة الاستراتيجية مع الصين وروسيا وغيرهما من الدول المستقلة والحرة وصولاً إلى تعاظم قدرات محور المقاومة من خلال ثبات وقوة الشراكة الاستراتيجية مع سورية والمقاومة في لبنان وفلسطين.

منذ عام 2000 تسنى لمحور المقاومة إفشال الحروب الأميركية «الإسرائيلية» وبعد طرد الاحتلال «الإسرائيلي» من لبنان تم تحويل احتلال العراق إلى عبء على الإمبراطورية الأميركية بينما طورت إيران من فاعليتها المتزايدة في مجالاتها الحيوية الممتدة من الخليج إلى باكستان وأفغانستان وآسيا الوسطى انطلاقاً من ثبات محور المقاومة وصموده.

الحرب بواسطة العصابات التكفيرية وجيوش المرتزقة التي حشدت في العدوان على سورية كانت آخر وصفات الاستراتيجيات الأميركية لإنعاش مخطط الهيمنة الاستعمارية وضرب محور المقاومة ولإخضاع إيران وكانت الحلقة التالية المقررة بعد تدمير سورية مهاجمة إيران لو قيض لخطة أردوغان وشركاه أن تنجح بقيادة الثنائي الأميركي السعودي ديفيد بيترايوس وبندر بن سلطان.

فشل المخطط الاستعماري بفضل صمود سورية وتماسك دولتها الوطنية وجيشها ورئيسها، وهكذا جاء اتفاق جنيف ثمرة تراجع الرئيس باراك أوباما عن الضربة العسكرية التي توعد بها سورية ورئيسها بعد اتضاح الكلفة التي سيعنيها التورط في غزوة عسكرية ضد دولة وطنية مصممة على مقاومة العدوان الذي لوح به البيت الأبيض وحشد له البوارج في حوض المتوسط صيف 2013 بينما تأهبت إيران وشركاء سورية في المقاومة لحمل قسطها من خطة الردع في ظل استنفار روسي صيني لمؤازرة الشركاء في خط الدفاع الأول في معركة البشرية ضد الهيمنة الأميركية الأحادية: سورية وحزب الله وإيران… ما أشبه الشرق اليوم بالهند الصينية في سبعينات القرن الماضي.

الاعتراف المتدرج بإيران النووية ورفع العقوبات سيؤهلان هذه الدولة القوية والغنية لإطلاق طاقتها الصناعية الإنتاجية وانضمامها إلى نادي الدول العظمى المنتجة للطاقة النووية بالنظر لما تملكه إيران من اليورانيوم الخام الذي يقدره بعض الخبراء بحوالي ألف وثلاثمئة منجم، إضافة إلى ثروة معدنية لا تقل أهمية عما تملكه من مخزون النفط والغاز وحيث يتوافر لديها بفضل الثورة العلمية جيش من المهندسين والخبراء الذين تمكنوا من القدرات التقنية المطلوبة لتحويل هذا المخزون إلى منتج قابل للتسويق بمحطات لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية ناهيك عن كونه القابلة المرتقبة لعملاق اقتصادي ضخم في صناعة التعدين والصناعات التكنولوجية المتطورة. وهنا بيت القصيد في اعتراض طريق التقدم النووي الإيراني وليست خرافة القنبلة النووية.

من يرد التعرف إلى مستقبل العلاقات الإيرانية الأميركية عليه أن يراجع سجل العلاقات الأميركية الصينية، ومن يسعَ لبلورة فهم واقعي لمعاني التكيف الأميركي عليه أن يسترجع سنوات ممتدة من التفاوض الصيني الأميركي وأن يرصد تحولات الميدان السوري والمسار السياسي لتفاعلات صمود سورية التي هي فيتنام الشرق.

يغمر القلق اليوم حكومات المنطقة التي بنت سياساتها خلال خمسة وثلاثين عاماً في خدمة السيد الأميركي على معاداة إيران ومناكفتها ومحاصرة سورية ومحور المقاومة مجتمعاً لدرجة التنسيق مع «إسرائيل» في حروبها العدوانية وهي ستواجه بعد أشهر استحقاق انتهاء الصلاحية واضطرارها إلى المساكنة الملزمة مع القوة الصاعدة التي سيثير رفع الحظر عن التعامل معها انهيارات وتبدلات كثيرة ناهيك عن التداعيات الممهدة لنهوض القوة السورية من جديد.

إيران تحصد ثمار صمودها ووفائها لحلفائها في التصدي للهيمنة الاستعمارية الصهيونية على المنطقة وربحها يراكم أرباحا لسورية والمقاومة، أما الوقت الذي تشتريه الولايات المتحدة فستنفق بعضاً منه لتطويع الدائرين في فلكها ولتحضير المسرح الإقليمي والعالمي للتعايش مع إيران وشركائها في ظل حرب باردة قادمة يختلط في سياقها التعاون والاختلاف والتجاذب والتفاهم وفي مخاض تعددية قطبية يبدو أقرب إلى خلط الأوراق السريالي الذي يرمز إليه تقدم المكانة الإقليمية لسلطنة عمان على المملكة السعودية الشقيقة الأكبر في مجلس التعاون الخليجي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى