بقلم غالب قنديل

البيئة الافتراضية في لبنان

غالب قنديل

تدحرجت الانتفاضة الشعبية التي لم تدم سوى يومين في موجها العفوي لتتحول بعد اختطافها المشهود إلى “حراك ” وفق أصحابها بينما يضيف السياسيون والإعلاميون إليه على هواهم نعوتا متعددة فهو حراك وطني او شعبي او ثوري وقد تفرع فعليا إلى حراكات متعددة جهوية بحيث تحظى كل جهة مشاركة بحراكها الخاص فهي حريرية في البقاع وساحل الشوف وجنبلاطية في الشوف وعالية وراشيا كما انها اخوانية مستقبلية في طرابلس وحريرية وناصرية في صيدا وقواتية جعجعية في ساحل المتن وجبيل ويسارية في رياض الصلح وليبرالية في ساحة الشهداء.

 

اولا تشكلت رواية إعلامية عن الثورة المغدورة حيكت بها بيئة افتراضية من خلال البث الحي المفتوح للقنوات المكلفة بتجهيز منصات لتصنيع الأحداث بدلا من مواكبتها فقد تلت تعميم شعارات ومفاهيم مسبقة الصنع بينما انتظمت عبر مكاتب التحرير سلسلة من العلاقات المفتاحية التي تحرك بعض المجموعات المشبوكة إلى نقاط تواجد الكاميرات وحيث تضرب موعدا على الهواء مع الراغبين بالكلام والظهور الذين يحملون توجيها بشعاراتهم وبشتائمهم وتعمدوا إخفاء هوياتهم الحزبية وانتماءاتهم المناطقية وأكثروا من تعبيرات الوحدة الوطنية وتمجيد ساحات بعلبك والنبطية وصور التي تولتها جهات يسارية لضرورات التفكيك المنشود والتجميع المطلوب.

البيئة الافتراضية التي حبكتها التلفزيونات والإذاعات وشبكات التواصل الاجتماعي عممت مصطلحاتها ومفاهيمها بدءا من إنكار وجود قيادة موحدة وتعميم التشبث بالطابع العفوي على طريقة لكل شخص حق التواجد والهتاف في أي ساحة وقطع الطريق التي يختارها بينما تشير الوقائع إلى وجود من رسم على خارطة لبنان  خطة لقطع الطرقات من الرينغ الواقع سابقا على تماس شطري العاصمة وكأنما هناك من استدعى أصحاب التجربة في حواجز الحرب  التي اختار التذكير بها بقوة من طريق الساحل الجنوبي إلى خطوط التماس القديمة بين القوات والجيش وصولا إلى طرقات المصنع وظهر البيدر والبقاع الغربي وراشيا وعكار وقد بات عار قطع الطرقات ونبش ذاكرة الحرب القذرة وسلطات الامر الواقع الغاشمة وسما لاصقا على جبين الحدث اللبناني يثير الغثيان والهلع بعدما استدرج جنازات لأبرياء تسبب قطاع الطرق بموتهم.

ثانيا لخص ديفيد بولوك في تقرير نشره معهد واشنطن استطلاع  رأي حديث أجري قبل أيام في لبنان وهو يؤكد ان كل ما جرى لم يزحزح ثقة القاعدة الصلبة للمقاومة ولم يؤثر على صورتها الاجمالية لدى الرأي العام  ويعترف ضمنا بقدرة المقاومة على احتواء التحديات وهو ما لخصته معلومات مقربين من الدوائر الأميركية وبالتالي يتبدى حاصل الفشل الذريع بحيث لم تهتز التوازنات الداخلية اللبنانية رغم وصف الأحداث المستمرة منذ 17 تشرين الأول بالثورة ورغم ما سخر لها وفيها من قدرات إعلامية وتسويقية هائلة تفرغت له ثلاث محطات لبنانية كبرى اشتهرت بترويجها لمشايخ التكفير وبخطبها الفتنوية قبل سنوات تحت عباءة مواكبة ما سماه الغرب بالثورة السورية التي تكشف ناشطوها في جرود لبنان الجبلية وفي أحياء طرابلس وصيدا عن فلول القاعدة وداعش وبعد خداعها للناس واكاذيبها طيلة سنوات تجدد لعبتها.

 ترتبط تلك المؤسسات والمنابر المتورطة منذ أعوام بعيدة ببرامج الاتصال والتنسيق والتمويل الأميركية التي أرساها آدم إيرلي ومعاونوه وانتشرت بعد احتلال العراق ونسقت قيام شبكة خليجية عربية من وسائل الإعلام التي تدار بالواسطة من دبي حيث مكتب تواصل إعلامي يرتبط بقيادة المنطقة الأميركية الوسطى للقوات والأساطيل الأميركية في الشرق الكبير وبإدارة الخارجية الأميركية في واشنطن وهو مكلف بتمرير المعلومات والتوجيهات لآلاف الصحافيين ولعشرات غرف التحرير والأخبار في سلسلة من وسائل الإعلام الخاضعة للمشيئة الأميركية  مع تنوع خصوصيات خطبها وهويات مالكيها ومصالحهم وقد ظهرت شبكة إيرلي حاضرة بجناحها الخليجي في الساحات اللبنانية حاملة لخطاب موحد وعلى كتف جناحها اللبناني وهوائه المفتوح وبصورة تشبه ما قامت به هذه الجوقة بجناحيها في مواكبة الحرب التكفيرية المنظمة على سورية ولبنان والعراق وما فعلته في جميع ما سمي بثورات الربيع.

ثالثا ثمة فروق اكيدة وظاهرة في المصطلحات المستعملة لتوصيف الجماعات التي انبرت في الساحات والشوارع واستعارت أوشحة من غير نسيجها ولا تمت لها بصلة في تاريخها السياسي أو تجاربها الميدانية وينطبق الوصف طبعا قبل سواها على قوى السلطة التي تغسل يديها من مشروع نهب لصوصي كانت فيه شريكا أصيلا وحرست من خلاله الهمينة الغربية وتكسبت عمولات وتقاضت أجرة ملوثة بالعار عن خدماتها في حرب تموز التي كونت بنك الاهداف الصهيونية وراكمت خرائطه في السفارات الثلاث التي تستقطب الاهتمام بحثا عن التسوية المتخيلة بد فشل الانقلاب الأميركي برعاية اميركية فرنسية وبريطانية.

في صلب البيئة الافتراضية تعميم التسميات والتوصيف المعلب حيث يتساوى تحت قناع الثوار القواتيون والمستقبليون والجنبلاطيون ومحازبو الجماعة الإسلامية أي فرع الأخوان اللبناني  ومعهم فرع حزب التحرير في طرابلس ومحازبو وانصار بعض اليسار اللبناني بمنوعات شيوعية وناصرية إضافة لحزب الكتائب وحزب سبعة الحفيد وعناصر مئات مجموعات الإنجيؤوز وكادرات متقنة التدريب من أساتذة جامعيين وخريجين من حصني الأميركية واليسوعية بقيادة فضلو خوري واضع لوائح مرشحي التكنوقراط لتولي المناصب الوزارية .

إن أي عاقل لم يذهب بقدرته على التفكير والتبصر بخار الوهم الشعبوي او رنين التصفيق لكلامه في خيمة او لما قاله على شاشة لابد ان يدرك حقيقة وجود قوى تقود وتحرك وترسم الشعارات وأن يلتمس خلفيتها المتمثلة باستثمار ما جرى لتجديد الهيمنة الأميركية والغربية وإحكامها عبر النيل من موقع حلفاء المقاومة في معادلات القرار اللبناني وبالاستعمال المتقن للكارثة المالية والاقتصادية التي خلفها نموذج التقاسم والتبعية للغرب والذي يفضل المخططون منع المس به ولو اضطروا لتعديل قوام شركاء المحاصصة البائسة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى