تقارير ووثائق

في الأردن، المشاكل والسياسات محلية ديفيد شينكر

 

            

فورين آفيرز

23 نيسان/أبريل 2015

الأوقات في الأردن عصيبة. أولاً، اضطرت المملكة إلى التعامل مع استيعاب ما يقرب من مليون لاجئ سوري على مدى السنوات الأربع الماضية، مما شكّل عبءاً كبيراً على البنية التحتية والموارد العامة في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، اضطرت إلى التعامل مع من ينتقلون بالاتجاه المعاكس، من الأردن إلى سوريا: فمنذ عام 2011، انتقل ما يُقدّر بنحو 2,500  أردني عبر الحدود الشمالية للانضمام إلى «جبهة النصرة» وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية». وفي المقابل، أصبحت الأردن هدفاً رئيسياً لهذه الجماعات الإرهابية. ففي أوائل مارس/آذار، قام “فيلق السلام” Peace Corps بإخلاء متطوعيه العاملين في البلاد، معلّلاً سبب ذلك إلى تهديد أمني إرهابي كبير. وعلى الرغم من كل هذا، لا يَعتبر متوسط الأردنيين أنّ الأمن هو التحدي الرئيسي التي تواجهه البلاد.

وأظهر استطلاع حديث للرأي أجراه “المعهد الجمهوري الدولي” غير الربحي، أنّ الأردنيين أكثر قلقاً بشأن الاقتصاد المتعثر، وارتفاع الأسعار، والفساد المستشري.  كما يشعرون أنّ أمامهم وسائل محدودة جداً لمعالجة هذه القضايا. ووفقاً للاستطلاع قال 71 في المائة من الأردنيين أنّ برلمانهم المنتخب قد فشل في تحقيق أي شيء يستحق الثناء في عام 2014. فالسلطة التشريعية في وضع حرج دائم أمام القصر الملكي المهيمن، والمشرعون منشغلون بأمور أقل من أن تكون ثانوية، مثل العلاقات مع إسرائيل، ومشروع قانون غير ضروري لحماية اللغة العربية.

وتبقى المخاوف المحلية مصدراً مستمراً وواسع النطاق للإحباط، على الرغم من أنّ الأردنيين لم يبدؤوا بعد بالاحتجاج في الشوارع. وخلال رحلة إلى الأردن قمتُ بها في آذار/مارس 2015، رأيتُ كيف تتعامل أردنية مع هذه القضايا في منطقتها الأم. وقد ألقت التجربة الضوء على كيفية نظر السياسيين الأردنيين إلى الحكم والسبب الذي يمكّن السياسة المحلية من أن تكون منفصلةً إلى هذا الحدّ عن المشاكل الكبيرة التي تعاني منها البلاد والمتعلقة بالسياسة الخارجية والأمن.

ردينة العطي (42 عاماً) هي نائب في البرلمان الأردني في ولاية ثانية، وهي من بلدة محافِظة وفقيرة في محافَظة الزرقاء تدعى الرصيفة، وأبناؤها من أصل فلسطيني بمعظمهم، وتقع على مسافة قصيرة بالسيارة إلى الشمال من عمان. وتنحدر من عائلة فلسطينية بارزة: فقبل تنحيه هذا العام كان والدها قد خدم لعدة عقود مسؤولاً رفيع المستوى في “حزب البعث العربي التقدمي” في الأردن، الذي يدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد. وتحمل العطي شهادة الماجستير في إدارة الأعمال، بالإضافة إلى درجة البكالوريوس في الإدارة المالية والمصرفية، وقد شغلت منصب عضو في “المجلس البلدي” لبلدة الرصيفة في الفترة 2007-2010. وتمّ انتخابها عضواً في البرلمان في عام 2010 ومرة ​​أخرى في عام 2013 بموجب قانون الكوتا النسائية في الأردن (يتمّ حجز 15 مقعداً من أصل 138 مقعداً في البرلمان للمرشحات اللواتي يحصلن على أعلى نسبة من الأصوات)، وهي تعمل في لجنتين في مجلس النواب إحداهما للشؤون المالية والأخرى للشؤون الفلسطينية.

ولعلّ أكثر ما تشتهر به العطي في الأردن هو آرائها في السياسة الخارجية. فهي من أشدّ الدعاة إلى إقامة دولة فلسطينية تضمّ فلسطين التاريخية كلها وعاصمتها القدس. كما تدعو إلى “تحرير” الأردن من “عبء” معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن التي تمّ توقيعها عام 1994. وقد أظهرَتْها ملصقات حملتها الانتخابية لعام 2010 أمام “قبة مسجد الصخرة” في القدس تحيط بها ثلاث انتحاريات من حركة «حماس». كما قدّمت أيضاً دعمها الكامل – على شاشات التلفزيون وفي مقابلات مطبوعة على حد سواء – للهجمات الإرهابية الفلسطينية على كنيس يهودي في القدس في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، مما أسفر عن مقتل خمسة إسرائيليين.

التقيت بالعطي في مكتبها في “جمعية نشميات الأردن الخيرية”، التي تقدّم المساعدات لأكثر نواحي المنطقة فقراً. وترأس العطي المنظمة وتجتمع بالناخبين في مقر الجمعية الرئيسي مرتين في الأسبوع – أيام السبت والأربعاء – للاستماع إلى مشاكلهم المتعلقة بالبطالة، والرعاية الاجتماعية، والتعليم، من بين عدد لا يحصى من العلل الاجتماعية الأخرى. وعندما وصلتُ ظهر إحدى أيام السبت، وجدت ما لا يقلّ عن 30 شخصاً ينتظرون بصبرٍ – لعرض مشاكلهم – في غرفة الانتظار. وعلى غرار معظم النساء في دائرتها، العطي إمرأة مسلمة محافظة ترتدي الحجاب وتمتنع عن مصافحة الرجال. ولكنها، مع ذلك، ليست من الطبع الخجول.

التقت العطي في غضون ساعتين بحوالى 20 من ناخبيها، ذكوراً وإناثاً على حد سواء. وقد تخلّل الجلسات القصيرة سيل من المكالمات على هاتفها المحمول – كل ثلاث دقائق تقريباً – أجابت عليها بسرعة. وكانت لبقة، إذ أنها بدأت دائماً بالسؤال عن عائلة الناخب، قبل الانتقال بعد ذلك مباشرة إلى صلب الموضوع.

وليس من المستغرب أنّ غالبية زوّار العطي كانوا يسعون إلى الحصول على المساعدة ضمن برامج المساعدات التي تمّولها الحكومة. فالفقر في الأردن ينتشر في كل مكان: ووفقاً لـ “البنك الدولي”، هناك ما يقرب من 15 في المائة من سكان المملكة تحت خط الفقر، أي من يبلغ دخل أسرتهم 366 ديناراً (517 دولاراً أمريكياً) في الشهر أو أقلّ من ذلك، كما يعيش حوالى 30 في المائة من السكان في حالة فقر لما لا يقل عن ربع العام الواحد.

وناقش العديد من الأشخاص الذين اجتمعوا بالعطي موضوع عدم كفاية رواتبهم التقاعدية. وقام شخص معاق جسدياً، غير قادر على العمل لإعالة أسرته المكونة من خمسة أفراد، بالشرح للعطي أنه يتلقى 136 ديناراً (192 دولاراً أمريكياً) فقط شهرياً كمساعدة من الحكومة. وقال إنّ هذا المبلغ أقلّ مما يحق له، ولا يكفي حتى لسداد الإيجار. واستجابت العطي إلى ذلك بالطلب من سكرتيرتها بإرسال خطاب إلى وزارة التنمية الاجتماعية والطلب من الوزير مراجعة حالة الرجل.

وفي حالة أخرى، تحدثت العطي مع إمرأة شابة متزوجة حديثاً طلبت المساعدة لتلبية احتياجاتها المعيشية الشهرية. وكان قد تمّ إرسال الزوج حديثاً إلى السجن بتهمة تحرير شيك مصرفي بلا رصيد، ويبدو أنّ المبلغ كان كبيراً جداً لدرجة أنه لم يتمكن من تسديده عند اعتقاله، وسوف يسجن لمدة عامين. وأعلمت العطي العروس الشابة بأنها مؤهلة للحصول على معاش شهري وشجّعتها على الاستفسار عن ذلك في وزارة التنمية الاجتماعية.

ولكن العطي لم تتمكّن من مساعدة الجميع. فقد قصدتها إمرأة أردنية كانت قد انتقلت إلى سوريا مع زوجها السوري منذ بضع سنوات للاستفسار عن حقها بالحصول على مساعدة من الحكومة. وقالت إنّ عائلتها كانت تعيش في حمص قبل العودة إلى الأردن قبل عام. وعلى الرغم من جنسيتها الأردنية، اعتُبرت أسرتها من اللاجئين في الأردن، لأنّ جنسيات الأطفال تتبع الوالد. وتحصل العائلة [كأسرة سورية] على 39 ديناراً في الشهر فقط كمساعدة، أو بالكاد ما يكفي لشراء حوالى 6 أرطال من اللحم في الشهر. (ووفقاً لـ “برنامج الغذاء العالمي”، يعاني 34 في المائة من الأردنيين دون الخمس سنوات من فقر الدم، مما يشير إلى أنّ استهلاك اللحوم الحمراء عنصر نادر بشكل متزايد في النظام الغذائي المحلي). وقالت المرأة إنّ شقتها تكلّف 150 ديناراً شهرياً، وراتب زوجها كخياط لا يكفي لإعالتهم. وقالت العطي للمرأة أنّ خياراتها محدودة، لكنها أشارت أنها ستسعى إلى الحصول على تمويل إضافي عن طريق “المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”.

وفي حالة أخرى، قصدتها مطلقة معوزة تعيش مع أطفالها في منزل شقيقتها، وانفجرت بالبكاء عندما شرحت وضعها إلى العطي. وقالت إنها لم تتلق بعد أي شكل من أشكال الرعاية الاجتماعية من الحكومة واضطرت للبحث عن الطعام في القمامة. ولم تتمكّن العطي من تقديم أي مشورة مفيدة، فمدّت يدها إلى جيبها ووضعت عدة دينارات في يد الإمرأة التي تسكن في منطقتها الانتخابية.

لقد كان التناقض في المنح التعليمية التي تمولها الحكومة مشكلة شائعة على ما يبدو. فقد اشتكى لها عدد من الناخبين الأصغر سناً أنّ مخصصات جامعتهم – المتاحة للطلاب الذين حصلوا على درجات “جيد جداً” – قد اختفت لسبب غير مفهوم. وأوضحت إمرأة رافقتها ابنتها أنّ المنحة الدراسية التي حصلت عليها هذه الأخيرة لـ “الجامعة الأردنية” في العام الماضي قد توقفت بعد الفصل الدراسي الأول من هذا العام على الرغم من حصولها على درجات ممتازة. واستدعت العطي سكرتيرتها مرة أخرى من الغرفة المجاورة لتسجيل تفاصيل القضية وإرسال خطاب من مكتبها إلى وزير التعليم العالي.

وتقرب البطالة من نسبة 30 في المائة في الأردن وربما أعلى من ذلك في الرصيفة، لذا لم يكن من المستغرب أنّ العديد من الناخبين طلبوا مساعدة العطي لتأمين لهم عمل. وعلى غرار معظم الأردنيين، بدا سكان الرصيفة يفضّلون وظائف القطاع العام، التي في حين أنها منخفضة الأجر، إلا أنها توفر الأمن الوظيفي وتُعتبر أقل تطلباً لناحية العمل. وقد طلب أحد الرجال مساعدتها في تجنيد إبنه إلى الجيش. وقالت إمرأة كانت سابقاً موظفة إدارية في وزارة التربية إنها ترغب في استعادة منصبها السابق. وقد قصد العطي أيضاً مدرّس متخصص في التربية الإسلامية كان قد زارها قبل ستة أشهر بحثاً عن وظيفة في المدارس الرسمية. وقالت له العطي إنها أرسلت خطاباً إلى الوزير نيابة عنه، ولكنها لم تتلقّ أيّ جواب، ووافقت على متابعة القضية.

ولم يتضح مدى نجاح العطي في حلّ جميع هذه المشاكل. ويقيناً، فانطلاقاً من مدى معرفتها بقضية المعلم – والعدد الهائل الذي بانتظار لقائها – يلاحَظ أنّ عجلات البيروقراطية في عمّان تتحرك ببطء.

ومع ذلك، فبعد ساعتين، غادرتُ مكتب العطي معجباً بالتزامها، واتصالاتها، وتفانيها لناخبيها. أُعجبت أيضاً بكفاءة العمليات التي تقوم بها، واهتمامها بالتفاصيل إلى درجة لا يمكن تصوّرها. لقد التقيت بالعديد من السياسيين الأردنيين على مرّ السنين، ولكن من المثير للدهشة سمعتُ القليل عن عودتهم بصورة روتينية إلى مناطقهم للتفاعل مع الناخبين. فباستثناء حضور الجنازات وغيرها من المناسبات الاجتماعية التي تتطلب منهم الظهور العام في منطقتهم، يبقى البرلمانيون عادة في عمان ويطلبون من الناخبين الانتقال إلى العاصمة لمقابلتهم.

إن توفير العطي ليوميْ خدمة للناخبين مثير للإعجاب بالفعل. ولكن في الوقت نفسه، يبدو من الغريب أن يضطرّ سكان الرصيفة إلى التماس مساعدة ممثلتهم البرلمانية للتدخّل لمصلحتهم في مسائل تبدو روتينية وتتعلّق بالوكالات الحكومية في عمّان. وتشير عدم قدرة الأردنيين على التعامل بنجاح مع بيروقراطية الدولة  وواقع أنّ العطي تبعث بخطابات للوزراء لتستفسر عن هذا العدد الكبير من الأفراد إلى عجز خطير في الحكم في الأردن. وفي حين أنّ جهود العطي مفيدة على المستوى الجزئي، إلا أنها تمثل أيضاً حلول بديلة لطريقة عمل نظام الحكم غير الملائم حالياً.

وعلى سبيل الإنصاف، بذلت الحكومة الأردنية بعض الجهود في السنوات الأخيرة لتحسين عناصر الحكم. وعلى الرغم من أنّ الفساد لا يزال الشكوى الرئيسية لمتوسط ​​الأردنيين، على سبيل المثال، ففي العام الماضي، وفقاً لـ “منظمة الشفافية الدولية”، تضاءلت تصورات الفساد المحلية في المملكة بشكل ملحوظ. ولكن مع التهديدات الأمنية المتنامية، فمن الواضح أنّ الإصلاح والتحسينات الشاملة للحكم في الأردن لا تزال تمثل أولوية أقلّ. وفي الوقت الحاضر على الأقل، تشكّل الخدمات التي تقدمها العطي وسيلةً ناجعةً لتلبية بعض احتياجات الرصيفة.

يعتبر متوسط ​​الأردنيين المشغولي البال بمشاكل الحياة اليومية والقلقين من تدهور الأوضاع في سوريا والعراق، أنّ النظام مُرضٍ، مع أنه أقلّ من المستوى الأمثل. مع ذلك، فبالنسبة إلى واشنطن، ستظلّ العطي لغزاً محيراً. وعلى الرغم من عملها الجيد في مجال الحكم، لا يستطيع الغرب تقبّل أجندتها السياسية الخارجية. ولكن بينما تواصل واشنطن دعم التطور الديمقراطي في الأردن وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط، ينبغي أن تتذكر أنّ السياسات كلها محلية.

ديفيد شينكر مدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى