تقارير ووثائق

قصر النظر الاميركي “والاستراتيجية الكبرى”: فرانكلين سبينس

 

النظرية المعاصرة “للاستراتيجية الكبرى” من قبل الولايات المتحدة يمكن تلخيصها بصدى صوت الرئيس جورج بوش في العام 2001 بعد وقت قصير من الهجمات الإرهابية التي ضربت مركز التجارة العالمي و البنتاجون.

بوش لم يخترع مفهوم “الاستراتيجية الكبرى”، كان صوته مجرد امتداد لنظرية وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت القائلة بأن أميركا أصبحت “قوة أساسية” في العالم مع انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة.

مع الاستفادة من تجاربنا السابقة، من الواضح الآن أن بوش فجر نفسه لخلق كل أنواع المشاكل في الداخل والخارج. ومن الواضح أيضا أنه على الرغم من النكسة، الا ان قصر النظر ومفهوم الاستراتيجية الكبرى اصبح مترسخا ومتحجرا اكثر خلال فترة باراك أوباما الرئاسية.

هذا واضح في تصعيد أوباما للهجمات الجوية بواسطة الطائرات بدون طيار، وقراراته القاتلة في الموضوع الأفغاني، التجسس الأجنبي والمحلي من قبل وكالة الأمن القومي، والذي تضمن التنصت على الهواتف المحمولة للحلفاء المقربين مثل رئيسة الوزراء الألمانية أنجيلا ميركل. بينما التدخل الاميركي العدواني في أوكرانيا، جنبا إلى جنب مع “شيطنة” فلاديمير بوتين سيؤديان الى تجدد الحرب الباردة.

بالتأكيد، “الاستراتيجية الكبرى” هي أكثر دقة من نظرية الحزبين الدبلوماسية القسرية التي ترتكز على تأكيد الحق بشن أي هجوم عسكري من جانب واحد. بالتأكيد، هناك ما هو أكثر من ذلك فمفهوم الإكراه وارد في سؤال أولبرايت للجنرال كولن باول خلال نقاش حول التدخل في البلقان حيث قالت: “ما هي الفائدة من وجود هذا الجيش الذي نتحدث عنه دائما إذا لم نتمكن من استخدامه؟

وجود أميركا في حالة حرب دائمة يشير إلى أنه حان الوقت لإعادة النظر في نهج “الاستراتيجية الكبرى”.

ما هي الاستراتيجية الكبرى؟

لذلك، كيف سنحدد الاستراتيجية الكبرى؟ ما هي الاعتبارات التي تشكل الاستراتيجية الكبرى البناءة؟

طور الاستراتيجي الأميركي الراحل، العقيد جون بويدخمسة معايير لتجميع وتقييم “استراتيجية الأمة الكبرى”، وتورد نظريات بويد الرائعة مجموعة من الإحاطات عن “الفوز والخسارة”. وسوف أعرض بإيجاز معايير بويد لتشكيل “الاستراتيجية الكبرى المعقولة”.

قال بويد إن أي دولة يجب أن تحدد السياسات الداخلية والسياسات الخارجية، والاستراتيجيات العسكرية التي تستخدم لتحقيق أهدافها الوطنية (يمكن للهدف الوطني أن يوجد في الدستور) بطريقة القرارات والإجراءات التي تعمل عليها:

– تقوية عزيمة الدول وزيادة تماسكها السياسي أو التضامني

ضرب عزيمة الخصوم وإضعاف التماسك الداخلي فيها

– تعزيز التزام الحكومات الحليفة بقضاياها وجعلها مهتمة بنجاحها

جذب غير الملتزمين بقضيتهم ودفعهم للعمل على انجاحها

– والأهم من ذلك، إنهاء الصراعات بشروط ميسرة لا تزرع بذور جديدة للصراع المستقبلي

لا ينبغي أن تكون تلك هي المعايير السليمة كقائمة، ولكن يمكن اعتبارها كمبادئ توجيهية عامة لتقييم تلك السياسات أو الاجراءات – على سبيل المثال رد الرئيس بوش على احداث 9/11 أو تدخل أوباما في أوكرانيا.

من الواضح، انه من الصعب بناء سياسات تتوافق مع تعزيز جميع هذه المعايير في نفس الوقت. هذا التحدي صعب خاصة في حالة الاستراتيجيات العسكرية من جانب واحد والسياسات الخارجية القسرية من نخب السياسة الخارجية. العمليات العسكرية والإكراه السياسي عادة ما يكون مدمرا على المدى القصير، والآثار الاستراتيجية التدميرية يمكن أن تكون في التوتر الطبيعي مع الأهداف الاستراتيجية الكبرى، التي ينبغي أن تكون بناءة على المدى الطويل. التاريخ تناثر مع الفشل في التوفيق بين التوتر الطبيعي وبين الاستراتيجية العسكرية والاستراتيجية الكبرى.

علاوة على ذلك، يصبح الموضوع أكثر قوة في بلد يصعب فيه الجمع بين هذه المعايير المتضاربة التي غالبا ما تخلق الاستراتيجية الكبرى المعقولة. امتلاك القوة الساحقة يولد الغطرسة والاستكبار ويغري القادة باستخدام قوتهم قسرا وبشكل مفرط. ولكن الصراع امتد ليملي الارادة الواحدة على الكل، وهكذا، فان حيازة القوة الساحقة يزيد من خطر ضياع الاستراتيجية على المدى الطويل.

هذا الخطر يصبح حادا بشكل خاص ويصعب السيطرة عليه عندما يستخدم العدوان الخارجي كإجراء وسياسة، ويستخدم الخطاب لدعم أو زيادة التماسك الداخلي لأسباب سياسية داخلية، مثل هدف الفوز في الانتخابات.

في كثير من الأحيان، أثارت الاستراتيجيات العسكرية أو السياسات الخارجية القسرية التي ينظر إليها على أنها مفيدة من حيث تعزيز التماسك السياسي المحلي نتائج عكسية على مستوى الاستراتيجية، لأنها تعزز إرادة خصومنا على المقاومة، وتدفع بحلفائنا للوقوف على الحياد أو حتى في زاوية الخصوم،… وهذه الاحداث يمكن ان تشكل مجتمعة الطريق لعزلة متزايدة ولاستمرار النزاع، الذي في النهاية يؤدي الى تآكل المنزل.

الغزو الألماني لفرنسا عبر مهاجمة بلجيكا المحايدة في العام 1914 يقدم مثالا كلاسيكيا حول السياسة التي شكلتها الاعتبارات الاستراتيجية الداخلية (في هذه الحالة، خوف ألمانيا برر عزلتها والحرب على جبهتين).

ألمانيا لم تكن تسعى لقهر واحتلال بلجيكا أو فرنسا بشكل دائم في بداية الحرب العالمية الأولى. ولكن في السنوات العشر التي سبقت الحرب العالمية الأولى، أصبحت هيئة الأركان العامة الألمانية لديها هاجس حول ضرورة مهاجمة وهزيمة الفرنسيين بسرعة كبيرة من أجل ضرب فرنسا في الحرب المقبلة، قبل ان يحشد حلفاؤها الروس قواتهم نحو الشرق.

وثمة مشكلة على مستوى العمليات في ألمانيا أن الحدود الفرنسية الألمانية محصنة بشكل كبير، وبالتالي فإن القيادة العسكرية الألمانية أقنعت نفسها بوجود حاجة استراتيجية لتجنب هذه التحصينات من خلال غزو بلجيكا المحايدة الصغيرة، التي كان لديها دفاعات أضعف بكثير.

بينما تأخذ الخطة الألمانية الاعتبارات العسكرية المنطقية في الحسبان (أي أسرع طريقة لاختراق الدفاعات الفرنسية)، الهوس الألماني والاستراتيجية العسكرية اعمت المخططين العسكريين عن الآثار الكبرى لاستراتيجية الغزو، خاصة إذا فشل ذلك الغزو بإنتاج، نصر سريع ونظيف.

فهم الاستراتيجيون العسكريون في ألمانيا أن انتهاك الحياد البلجيكي من المرجح أن يجلب بريطانيا العظمى نحو الحرب. لكنهم لم يقدروا كيف يمكن ان تكون ردة فعل العالم المتحضر وكيف ستكون ردة الفعل على غزو البلد، ووضرب الاستقلال والحياد بموجب معاهدة لندن.

في العام 1914، رفض وزير الخارجية الألماني (الذي لم يكن له رأي في صياغة قرار الجيش الألماني لاستراتيجية الغزو) احتمال دخول بريطانيا الحرب ووصفت ألمانيا معاهدة لندن بأنها “قصاصة ورق”، ومع ذلك تحولت معاهدة لندن إلى أن تكون أكثر من مجرد حبر على ورق.

أدى الغزو الألماني لبلجيكا ثم فرنسا لدخول بريطانيا في الحرب والى غضب العالم المتحضر. تم إيقاف الغزو الألماني في معركة المارن الأولى من (سبتمبر 1914)، شهر واحد فقط بعد أن غزت بلجيكا. انسكاب الدم زاد عزم كل جانب على المستوى الاستراتيجي الكبير للصراع.

على مدى السنوات الأربع اللاحقة شيدت بريطانيا بنجاح صورة ألمانيا “كشر لا هوادة فيه”. وقد عززت الدعاية التخبط الاستراتيجي من جانب القيادة الألمانية، وخدمت هذه المواضيع في عزل ألمانيا على المستوى الاستراتيجي.

أنشأت العزلة المعنوية لألمانيا التباين النفسي الذي زاد من حرية عمل الخصوم: كان البريطانيون قادرين على تجنب الانتقاد، في حين أنهم حاصروا بشكل لا يرحم ألمانيا مما أسفر عن موت عشوائي ومعاناة للمدنيين.

في الواقع، سياسة الولايات المتحدة في العراق في العام 1990 اشبه بسياسة بريطانية عندما حاصرت ألمانيا (وخصوصا القيود المفروضة على واردات الغذاء).

وبالتوازي فإن سياسة الحصار في الحرب العالمية الأولى ضد بريطانيا تنطبق على سياسة العقوبات الامريكية في العراق خلال ادارات بوش وكلينتون: ترويج فكرة ان صدام حسين شر مطلق بعد أن غزا الكويت جاءت لخدمة الولايات المتحدة “والاستراتيجيين” في إقناع العالم بفرض عقوبات على العراق من أغسطس 1990 حتى مايو 2003.

لا أحد يعرف كيف مات الكثير من العراقيين الأبرياء نتيجة الحصار واعمال صدام حسين التي لا ترحم، ولكن التقديرات الواردة في الدراسات تؤكد وفاة 500000 إلى مليون. وردا على سؤال طرح في العام 1996 حول عدد وفيات الأطفال العراقيين من قبل ليزلي ستال لمادلين اولبرايت قالت: “نحن نعتقد أن الثمن يستحق ذلك”. ومع ذلك استخدمت الولايات المتحدة الادعاءات الكاذبة لتبرير الغزو غير المبرر للعراق في العام 2003.

لا شك في أن نجاح الاستراتيجية البريطانية الكبرى في عزل ألمانيا أخلاقيا خلال الحرب عملت أيضا على تغذية الغطرسة التي أدت إلى الرغبة في الانتقام بشكل مفرط من قبل ألمانيا وذلك في مؤتمر فرساي للسلام في العام 1919. هذه الشروط المرهقة “انهت” الصراع ولكنها زرعت بذور نزاع مستقبلي بديهي.

الخروج عن المعايير الاستراتيجية الكبرى معقول، بريطانيا، جنبا إلى جنب تواطأت مع إيطاليا وفرنسا بسبب عجز الرئيس وودرو ويلسون ورفض فرض الاعتدال في شروط السلام، ساعد دون قصد في تمهيد الطريق لظهور ألمانيا النازية.

السياسيون ودعاة الحرب الأميركيون يتحدثون عن شبح هتلر وعن خطر ميونيخ ولكن لا يرجعون الى سبب وصول هتلر إلى السلطة.

اليوم وبعد 101 سنة على بداية الحرب العالمية الأولى، العالم لا يزال يدفع ثمن استراتيجية ألمانيا في العام 1914 واستغلال الحلفاء الذي لا يرحم ومؤتمر فرساي للسلام – مشاكل البلقان وروسيا، والقوقاز، على سبيل المثال لا الحصر، لها جذور ترتبط بتدمير النظام العالمي الذي تدفق من غزو العام 1914، والانتقام العام 1919.

لذا، فإن الدرس المهم من هذه الدراسة هو الحالة الألمانية: أنه أمر خطير جدا السماح للاستراتيجية العسكرية بان تكون ورقة رابحة لاستراتيجية كبرى. كلما فشلت قوة عظمى في النظر بشكل كاف بمعايير تشكيل استراتيجية كبرى معقولة، يمكن أن يكون لها عواقب غير مقصودة مؤلمةتم إغلاقها لفترة طويلة جدا.

التركيز على “الصلابة

مشكلة السياسة الخارجية المركزية اليوم ومشكلة النزعة العسكرية الأمريكية يمكن القول ببساطةانها طغيان الاستراتيجية العسكرية على الاستراتيجية الكبرى. والنتيجة ليست فقط في حالة الحرب الدائمة، ولكن كما يظهر في أوكرانيا والصين فان السياسات الناشئة، هي واحدة لمواجهة التوسع الذي يمكن أن تؤدي إلى المزيد من الحروب والمزيد من النكسات.

ذلك هو الوقت المناسب لتقييم الاستراتيجية الأحادية الكبرى الواضحة في الحرب الأميركية التي تتمحور باستمرار على الإرهاب.

ستكون الحملة الرئاسية في حالة تأهب قصوى يوما بعد يوم. لكن الشعب الأميركي على وشك أن يستغرق بالخطب والمناقشات حول إعادة بناء دفاعات أميركا، فمعظم المرشحين يعلقون فوزهم على مدى قدرتهم على إخراج البلاد من مشاكلها الخارجية.

لن يكون هناك أي مرشح يتحدث بشكل مدروس عن أهمية المضي بالبلاد بعيدا عن النزعة العسكرية العمياء نحو استراتيجية كبرى أكثر عقلانية.

للأسف، هذا ربما لن يحدث، في أميركا، كما في أماكن أخرى، السياسة الخارجية تتشكل عبر السياسة الداخلية. وفي بلدنا، هناك الكثير من الناس في المجمع العسكري الصناعي (الكونغرس) اصبحوا اكثر قوة عن طريق تغذية سياسة- أميركا الذاتية والأحادية.

انفورميشين كليرينغ هاوس

ترجمة: وكالة اخبار الشرق الجديد-ناديا حمدان

http://www.informationclearinghouse.info/article42759.htm

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى