تقارير ووثائق

الجغرافيا السياسية: ريفا بهالا

 

التنبؤ بشكل العالم في السنوات والعقود المقبلة هو مشروع جريء، حيث لا يوجد صور أو نقاط او بيانات دقيقة لترسيخها. نحن يمكن أن نخلق صورة واحدة غامضة في أحسن الأحوال. وهذا يعود للغريزة الاساسية التجريبية للإنسان: يمكن رسم صور حية من عالمنا الحالي ولكن التجارب السابقة تؤكد انها ستكون باهتة في المستقبل .

في عالم الاستخبارات والتخطيط العسكري، محاكاة لعبة الحرب التي تقوم على وجود التهديد النووي الإيراني، وقوة الجهاديين التي على ما يبدو لا يمكن وقفها مثل الدولة الإسلامية، والمغامرات العسكرية الروسية في أوروبا الشرقية – تستدعي اضعاف روسيا وتجزئتها داخليا، ورد الخطر الجهادي واقامة تحالف إيراني- اميركي في وجه التهديد السني.

عالم الأعمال، يقوم على اشياء أبسط بكثير، فالصفقات والاستراتيجيات تحتاج الى بيئة مألوفة باسعار فائدة منخفضة. الاستراتيجيون في العديد من المجالات مذنبون لانهم يستقرؤون الافتراضات الحالية لوصف المستقبل، بينما الازمة الكبيرة قادمة وتضرب امامهم.

قال جنرال أميركي ذات مرة “لدينا دائما خرائط خاطئة ولغات خاطئة عندما نذهب إلى الحرب“.

لذلك كيف يمكننا الخروج من هذا الفخ وتطوير الثقة لنرسم صورة واضحة ومعقولة للمجهول؟ العالم الرباعي الابعاد قد قدم بعض الإرشادات للتنبؤ. علماء الفيزياء مثل ألبرت آينشتاين، لويس دي بروي وشرودنجر اروين كان لديهم هاجس حول العلاقة المعقدة بين المكان والزمان.

وقد استمرت المناقشات بين العلماء حول كيفية تصرف الجسيمات الذرية ودون الذرية في أبعاد مختلفة، ولكن هناك مبادئ أساسية معينة في مجموعة من النظريات الكمومية التي ينبغي أن يتردد صداها مع أي شخص لديه مسؤولية التنبؤ بالأحداث العالمية.

مبادئ الحصص والكيانات السياسية

وصف أينشتاين “الزمكان” وكأنه نسيج ناعم تشوهه الكائنات في العالم. بالنسبة له، كان الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل مجرد “وهم مستمر بعناد”. بناء على أفكار آينشتاين، فان ريتشارد فاينمان الحائز على جائزة نوبل، لديه بعض أفضل الأفكار التي جاءت من رسومات كتبت على المناديل في الحانات ونوادي التعري، وتركز على الجسيمات التي يمكن أن تنتقل من النقطة A إلى النقطة B بمسارات محتملة، وكل واحدة لديها سعة للاحتمال. وبعبارة أخرى، فإن الجسيمات سوف تذهب إلى أعلى أو أسفل وفي الفضاء، وتتجنب مسارات الجسيمات الأخرى لعدم الاصطدام بها. ووفقا لنظرية فاينمان، سيكون لكل حصة مسارات مختلفة.

سلوك المجتمعات، دويلات بروتو والدول القومية (على الأقل على كوكبنا المتواضع) تتبع “مسار مماثل”. لقد رأينا دويلات ودول وإمبراطوريات ترتفع وتنخفض على طول الترددات المتنوعة. حصة الواحدة يمكن أن تتقاطع مع الاخرى، وهذا ما يؤدي الى تدمير الاخرى. مسار واحد من الجسيمات يمكن أن يعزز الاخر، ويخلق الإمبراطوريات التجارية الواسعة. أميركا اللاتينية، استطاعت التحول جيوسياسيا ولكن بخطى السلحفاة في العصر الحديث، وتميل إلى بعث موجات طويلة شبيهة بالموجات التي نعرفها اليوم باسم التقلبات الشديدة في الشرق الأوسط.

نظريات الحصص التطبيقية: تركيا

إذا ما طبقنا مبدأ الدولة القومية باعتبارها المبدأ المنظم للعصر الحديث فان إمكانيات مسار الدولة يبدو بلا نهاية. ومع ذلك، فإن احتمال مسار الدولة يمكن بناؤه بحسب رسم صورة المستقبل.

الخطوة الأولى هي تحديد بعض الثوابت التي تشكل سلوك البلاد على مر الزمن، بغض النظر عن الشخصية أو الايديولوجية (وهي حتمية الوصول للبحر، والمناظر الطبيعية الجبلية التي تتطلب كمية كبيرة من رؤوس الأموال لنقل البضائع من النقطة A إلى النقطة B، المناظر الطبيعية الخصبة التي تجذب أكبر قدر من المنافسة، وتوفر الثروة).

تاريخ البلاد هو بمثابة مختبر للدولة. ما هي الشروط لعدم فشل الدولة وللمساهمة في عملية الازدهار، ولتجنب الاصطدام مع الدول الكبرى، وللعيش بسلام نسبي؟ نحن نأخذ الحقائق المعروفة وننظر للماضي، ونحاول إثراء البلاد بالأدب والشعر والأغنية، ونحن نرسم صورة ملونة ومحكمة للحاضر. ثم يأتي الجزء الاصعب: وجود الشجاعة للتحديق في المستقبل ومعرفة المعوقات ورؤية الاحتمالات. من خلال هذه الممارسة، الاستقراء غير الصحيح يمكن أن يكون مسبب للعمى.

فلنأخذ تركيا، على سبيل المثال. لسنوات، سمعنا النخب السياسية في الولايات المتحدة، وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط تقول ان تركيا لديها هاجس إسلامي وغير راغبة أو غير قادرة على مطابقة الأقوال بالأفعال في التعامل مع المنافسين الإقليميين مثل إيران وروسيا. وكانت تركيا في نواح كثيرة تلعب دور إقليمي، ولديها ميول ايديولوجي جدا تجاه الجماعات الإسلامية التي تعتبر مفيدة للغرب. لكن عودة تركيا لا تتبع مسار خطي. كان هناك تموجات وتحولات على طول الطريق، وتشويه مفهوم الدور الإقليمي للبلد. في نهاية المطاف، شكلت مكانتها باعتبارها الجسر البري بين أوروبا وآسيا والبواب بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط.

كيف يمكن أن نفسر تصرفاتها حيث شنت تركيا غارات جوية على قوات داعش والمتمردين الأكراد في حين تستعد لتوسيع المنطقة العازلة في شمال سوريا – وهذهالإجراءات تميز خروجها منموقف الخجل الذي اعتادت عليه.

يجب أن ننظر إلى الماضي البعيد، حيث قام الإسكندر الكبير بفتح أبواب الشام على مصراعيها، وأنشأ مدينة في شمال البلاد على حدود الأناضول، هي “الإسكندرونة”. وكان أمام الإسكندر، أن يختار إحدى الخطتين: إما أن يتعقب الفرس إلى بلادهم نفسها، وإما أن يزحف جنوبا لفتح المدن الفينيقية ومصر قبل أن ينقض على فارس. وقد وقع اختيار الإسكندر على الخطة الثانية لكي يصون خطوط مواصلاته.

ننتقل الى الزمن الماضي حيث غزا السلاجقة الأتراك حلب في القرن الـ11 وصولا إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما استخدمت الجمهورية التركية الفتية الدبلوماسية لاستعادة السيطرة على أراضي انطاكية واسكندرونة، التي أصبحت اليوم تشكل محافظة هاتاي -الحدود السورية التركية-.

يجب علينا أن ننظر الى الوقت الحاضر. الخريطة المعاصرة للحدود السورية التركية تبدو غريبة جدا، نجد ان محافظة هاتاي ترتكز على خليج الاسكندرونة، وتمتد شرقا باتجاه حلب، المركز التجاري التاريخي الشمالي لبلاد الشام، وما بعده من أراضي كردية في شمال العراق، حيث ثروات النفط التي تكمن في ما كان يعرف سابقا بالمحافظة العثمانية في الموصل.

ثم نأخذ نظرة نحو المستقبل. مصلحة تركيا في شمال سوريا وشمال العراق ليست فكرة مجردة ناجمة عن مجموعة من المتعصبين الدينيين الذين يطلقون على انفسهم اسم “الدولة الإسلامية”. هو في الواقع تقاطع وتعزيز للموجات الجيوسياسية المتعددة التي خلقت قوة خفية خلف أنقرة لإعادة تمتدها على طول الحدود الرسمية وغير الرسمية في تركيا والأناضول.

لمعرفة إلى أي مدى تمتد تركيا يجب أن ندرس الموجة المتقاطعة المنبثقة من بغداد ودمشق وموسكو وواشنطن واربيل والرياض.

الولايات المتحدة عازمة على الحد من أعبائها في الشرق الأوسط وتحقيق التوازن ضد روسيا، وتعزيز الطول الموجي التركي إلى حد ما، في حين يتردد ان الاعبين السنة الأخرين في المملكة العربية السعودية، وروسيا لا زالوا لديهم القدرة على إبراز القوة العسكرية في الخارج.

التفكير في ما وراء الحدود

موضع تركيا ليس بأي حال من الاحوال ثابت أو حتمي. هو ببساطة تحقيق مسار الدولة في رؤية أكثر وضوحا. تفسير الحصص في العالم ليس حتمي، ونحن لا نستطيع أن نعرف على وجه اليقين اذا كانت النتائج ستكون ايجابية ام لا.

يمكننا تطبيق نفس العملية في الشرق الأقصى، بين اليابان والصين، وكوريا المقسمة، والشد والجذب بين فرنسا وألمانيا على البر الأوروبي كما تستوعب قوى الجاذبية مشروع الاتحاد الأوروبي.

في كثير من الأحيان، نحن نتطلع الى المستقبل كما ننظر الى الماضي – من خلال عدسة مشوهة، وهذا هو الخلل في غريزة الإنسان ويجب التغلب عليها. سيتم تطبيق القيود، وسيتم تعيين الاحتمالات. ولكن أيا كان الوقت او التوجيه أو البعد سنعمل على توقع الأحداث الجيوسياسية، ونحن يجب أن نكون موجودون في وقت واحد في الماضي والحاضر والمستقبل.

ستراتفور

ترجمة: وكالة اخبار الشرق الجديد- ناديا حمدان

https://www.stratfor.com/weekly/quantum-geopolitics?utm_source=freelist-f&utm_medium=email&utm_term=Gweekly&utm_campaign=20150728&utm_content=readmoretext&mc_cid=6a57dd2b30&mc_eid=f33447fba2

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى