تقارير ووثائق

أنماط السياحة في تركيا تنتقل من أوروبا إلى الشرق الأوسط سونر چاغاپتاي و أويا أكتاس

30 تشرين الأول/أكتوبر

2017

تشكّل السياحة جزءاً أساسياً من الاقتصاد التركي، حيث يدرّ هذا القطاع إيرادات سنوية تقدّر بنحو 35 مليار دولار. ففي عام 2014، زار البلاد ما يقرب من 37 مليون سائح، مما جعل من تركيا سادس أكثر البلدان زيارةً في العالم، ناهيك عن أنها احتلّت المرتبة الأولى كأكثر البلدان ذات الأغلبية المسلمة التي تمّت زيارتها. وقد توافد الأوروبيون بشكلٍ خاص إلى تركيا وشكّلوا أكثر من نصف السياح الوافدين على مدى العقود القليلة الماضية. وقد وّفر ذلك جسراً ثقافياً هاماً، إذ تعرّف عدد كبير من الأوروبيين إلى ثقافة تركيا، كما تعرّف الأتراك على القيم الأوروبية. ويعتبر ذلك ميزةً جوهرية في بلد يملك فيه أقل من 15٪ من السكان جواز سفر.

ومع ذلك، تُظهر التوجّهات الأخيرة أن هذا الجسر قد يأخذ في التصدّع، إذ يشهد قطاع السياحة في تركيا تحولاً في الآونة الأخيرة بسبب الهجمات الإرهابية، والعداوات الدبلوماسية، ومحاولة الانقلاب التي شُنّت في تموز/ يوليو 2016، مما تسبّب في تراجُع جاذبية البلاد كوجهةٍ سياحية بالنسبة إلى الأوروبيين. وفي العام الماضي، انخفض عدد السياح القادمين من البلدان الموردة عادةً للزوار مثل ألمانيا وإنكلترا، كما انخفض عدد السياح الإجمالي إلى 25 مليون سائح. وعلى الرغم من أن بيانات عام 2017 تشير إلى أن القطاع يتعافى من هذا الانخفاض الحاد، إلّا أنّ التوجهات على المدى الطويل تشير إلى تحوّل تركيا من سوق سياحية أوروبية إلى شرق أوسطية، مع احتمال [ما ينجم عن ذلك من] تداعيات ثقافية وسياسية عميقة.

نمو السياحة الغربية في تركيا

لدى الشعوب الغربية تاريخاً طويلاً من السياحة في تركيا يتجسّد في “قطار الشرق السريع” الشهير الذي بدأ رحلاته من باريس إلى اسطنبول في عام 1883. وكان قد تم تأسيس المكتب الحكومي الأول للسياحة في الجمهورية التركية تحت إشراف وزارة الاقتصاد في عام 1934، ثمّ أصبحت وزارة السياحة مستقلة في عام 1963 لتلبية التدفق المتزايد للأوروبيين.

لقد كانت فترة الثمانينات الأكثر انتعاشاً في تركيا، ويعزى ذلك إلى حد كبير إلى سياسة رئيس الوزراء في ذلك الوقت تورغوت أوزال الذي فتح الاقتصاد أمام الاستثمار الدولي. فقد انطلقت السياحة الشاطئية على وجه الخصوص نتيجة طبيعة البلاد ونظراً للساحل التركي الذي يمتد لمسافة تناهز 800 ميل. وبدأ البريطانيون والهولنديون والألمان وغيرهم من شمال وغرب أوروبا يتدفقون إلى تركيا لقضاء العطلة على سواحل بحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط. وقد ساعد هذا التحوّل على دفع البلاد من المرتبة 52 كأفضل مقصد سياحي شهير في العالم في عام 1980 (مع زهاء مليون زائر أجنبي سنوياً) إلى المركز التاسع عشر بحلول عام 1997 (بما يقرب من 10 ملايين زائر).

واستمر هذا التوجه التصاعدي بعد وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى الحكم في عام 2002. وأصبحت تركيا واحدة من أفضل عشر وجهات سياحية في العالم، حيث استقبلت أكثر من مليون زائر من كل دولة مثل ألمانيا وإنكلترا وروسيا وهولندا. وجاء معظم الزوار من الدول الأعضاء في “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”، مع حصة كبيرة بشكل خاص من أوروبا. وفي عام 1961، تأسست “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” من قبل سبعة عشر دولة أوروبية بالإضافة إلى كندا والولايات المتحدة وتركيا، وتوسعت منذ ذلك الحين لتضمّ أربعة وثلاثين عضواً، من بينهم بلدان غير أوروبية مثل اليابان والمكسيك وتشيلي. ووفقاً للبيانات الصادرة عن “معهد الإحصاء التركي”، أوردت دول “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” ثلثي السياح في تركيا عام 2002. وفي المقابل، شكّلت “رابطة الدول المستقلة” – منظمة تتألف من بلدان سوفياتية سابقة – 12.5٪ فقط. كما وشكّلت دول الشرق الأوسط نسبة منخفضة تصل إلى 4.71٪ فقط على الرغم من موقعها القريب من تركيا.

تحوّل الأسواق

على مدى العقد الذي أعقب تلك الفترة، تغيّر هذا التوازن شيئاً فشيئاً. ففي عام 2010، تقدّمت جورجيا على هولندا وأصبحت خامس أكبر مورّد للسياح إلى تركيا. وأصبحت قائمة أفضل خمس بلدان مورّدين للسياح مقسّمة بالتساوي بين أعضاء “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” والدول السوفياتية السابقة. وفي عام 2014، انخفضت حصّة “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” من سوق السياحة في تركيا إلى أقل من 50٪ للمرة الأولى، وبذلك انتهى دورها كأكبر مورّد للسياح إلى البلاد الذي دام لفترة طويلة، في حين نمت حصّة “رابطة الدول المستقلة” إلى نحو 25٪. وعلى الرغم من أن السوق السياحي الشامل في تركيا قد نما بشكل مستمر حتى عام 2015، إلّا أنّ “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” حققت أقل نسبة نمو منذ عام 2002 (200٪)، في حين ارتفع نمو بلدان “رابطة الدول المستقلة” بشكلٍ هائل (490٪).

والأكثر إثارة للدهشة هو معدّل نمو حصّة الشرق الأوسط. فقد ارتفع عدد السياح من تلك المنطقة بين عامي 2002 و2015 بنسبة تتخطى 570٪، أي بنسبة 9.88٪ من مجموع الزوار إلى تركيا. وفي حين أن الحكومات السابقة تجاهلت إلى حد كبير الأسواق ذات الأغلبية المسلمة، إلّا أنّ «حزب العدالة والتنمية» لفت انتباهها واستدرجها من خلال حملات تواصل واسعة النطاق ولّدت بدورها معظم هذه الزيادة الإقليمية.

ابتعاد الغربيين في عام 2016

في العام الماضي، تلقّت السياحة التركية ضربة ًقاسية. فبعد أن بلغ متوسط النمو السنوي 10٪ على مدى أكثر من عقد من الزمن، انخفض عدد الزوار الأجانب إلى تركيا بنسبة 30٪ في عام 2016. وقد ساهمت عوامل مختلفة في هذا الهبوط الحاد، على غرار المخاوف بشأن الهجمات الإرهابية من قبل كل من «حزب العمال الكردستاني» وتنظيم «الدولة الإسلامية» التي استهدفت بعضُها السياح استراتيجياً (على سبيل المثال، هجوم كانون الثاني/يناير 2016 في اسطنبول)؛ والعقوبات المتعلقة بالسياحة التي فرضتها روسيا بعد إسقاط تركيا إحدى طائراتها العسكرية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015؛ وأزمة الانقلاب في تموز/يوليو 2016.

ومع ذلك، ارتفع عدد الزوار من خمسة عشر بلداً محدداً من عام 2015 إلى عام 2016. وبلغت الزيادة 15٪ على الأقل لحوالي نصف هذه البلدان مثل جورجيا وأوكرانيا وأفغانستان والبحرين وفلسطين وإسرائيل والمملكة العربية السعودية والأردن. وبعبارة أخرى، فإن المخاوف الدبلوماسية والأمنية التي أدت إلى تباطؤ السياحة من معظم بقاع العالم لم تردع الزوار من بلدان الشرق الأوسط والبلدان السوفيتية السابقة. حتى أن عدد السياح من روسيا نفسها بدأ يرتفع من جديد بعد أن توصلت أنقرة وموسكو إلى تفاهم حول حادث إسقاط الطائرة.

تآكل الجسر الثقافي الأوروبي إلى تركيا

لقد تحسّنت أعداد السياح هذا العام بشكل عام، ولكن التوجّه لا يزال مستمراً. وحيث تشهد تركيا أزمةً سياسيةً حادة، ويستمر عدم الاستقرار في الارتفاع، فمن شأن حدة التوترات بين أنقرة والحكومات الأوروبية أن تثني السياح الأوروبيين عن زيارة تركيا بالأعداد الكبيرة السابقة، على الأقل على المدى القصير.

وبعيداً عن الأبعاد الاقتصادية، فلهذا التوجه تداعيات اجتماعية هامة أيضاً. فإذا خرج شخص في نزهة مسائية في شارع “الاستقلال” في اسطنبول، الذي لطالما كان رمزاً للهوية العالمية لهذه المدينة، فمن النادر الآن أن يسمع أحاديث في لغات غير اللغة العربية والتركية. أمّا في السنوات الماضية، فكان هناك مزيج أوسع من اللغات التركية والإنكليزية والأوروبية. وبالمثل، أصبحت معظم لافتات المحال التجارية مكتوبة باللغة العربية، في حين استبدِلت الحانات والمعارض الفنية والأماكن الثقافية – التي كانت تضجّ بالسياح الأوروبيين المختلطين والأتراك – ببائعين أكثر جاذبيةً للسياح الشرق أوسطيين (مثل محلات القفطان وصالات النرجيلة).

وقد يكون تأثير هذا التوجّه قوياً على الأجيال بشكل خاص لأن حوالي 11٪ فقط من الأتراك يسافرون إلى الخارج. وحتى في خلال مرحلة الذروة في عام 2015، بلغ عدد السياح الأتراك الذين سافروا حول العالم أقل من 9 ملايين شخص من أصل مجموع السكان البالغ عددهم نحو 80 مليون نسمة. وبالنسبة للكثير من الأتراك، فإن تعرضهم للعالم الخارجي يأتي مباشرةً من التفاعلات مع السياح. وفي العقود الماضية، عرّفتهم هذه التفاعلات على الثقافات والقيم الأوروبية. ولكن بلدان الشرق الأوسط ودول الاتحاد السوفيتي السابق هي التي تبرز حالياً في المقدمة بشكل متزايد.

سونر چاغاپتاي هو مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، ومؤلف الكتاب الجديد: “السلطان الجديد: أردوغان وأزمة تركيا الحديثة”. أويا روز أكتاس هي مساعدة أبحاث في زمالة “إيفون سيلفرمان” في المعهد. أكين يوسيل هو مرشح لنيل شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية والاقتصاد من جامعة فيرجينيا ومتدرب في المعهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى