بقلم الدكتورة بثينة شعبانمقالات مختارة

أنا عراقي..أنا أقرأ أ.د. بثينة شعبان

نحن من جيل نشأنا على مقولة أنّ القاهرة تكتب وبيروت تنشر والعراق تقرأ، نشأنا على واقع كانت أعداد عديدة من كافة أنحاء الوطن العربي تجتمع في القاهرة لتشكّل نخبة ثقافية عربية، وكثير من دور النشر تتخذ من بيروت مقرّاً لها للتوزيع على كافة أنحاء الوطن العربي، والتمويل الكبير لبيع الكتاب على العراق الذي كان يشتري عشرات الآلاف من النسخ لأن العراقيين معروفون بأنهم قراء وأصحاب مكتبات وحوارات وأمسيات شعر وإنتاج أدبي رفيع. ولكن وبعد حصار العراق ومن ثمّ احتلاله من قبل القوات الأمريكية تراجع النشر في بيروت وفي كلّ العواصم العربية وأصبح الناشر بالكاد يطبع بضعة آلاف نسخة لأمة يقارب عدد سكانها أربعمئة مليون نسمة.

والمفجع في الأمر هذا هو أن بعض العرب وحتى بعض المشرفين على الشؤون التربوية في المدارس أخذوا يروّجون لفكرة عدم جدوى القراءة باعتبار أن المعلومات غدت متاحة على النت وأنه لا داعي لأن نعذّب الأطفال بقراءة كتب سوف ينسون محتوياتها بعد تقديم امتحاناتهم. أضف إلى ذلك أن معظم الأهل استسلموا لإدمان أطفالهم ويافعيهم على برامج الشبكة العنكبوتية بحيث يقتلون وقتهم ولكنهم يريحون الأهل من عناء تعليمهم أو الحديث إليهم أو مناقشتهم أو مصاحبتهم إلى المكتبات والمسارح والموسيقا. وظنّ هؤلاء العرب أنهم جزء من ظاهرة عالمية جارفة لا يحاول أحد أن يتصدى لها غير مدركين أن الشعوب في الغرب والشرق مازالت تقرأ وتعلّم أولادها القراءة وارتياد المكتبات وعقد حلقات نقاش حول الكتب في المدارس وإيلاء أهمية كبرى للمطالعة من خارج المنهاج الدرسيّ.

وبدأت المكتبات في كثير من العواصم العربية بالإغلاق كما أعلنت كثير من دور النشر إفلاسها وعدم قدرتها على المتابعة في ظاهرة تشكّل انتكاسة للثقافة العربية والفكر العربي. وفي هذا المفصل بالذات بدأت بعض المجتمعات تسارع الخطى فيما بعد الحروب العسكرية والاقتصادية لتعلن ريادتها في الحرب المعرفية والثقافية فأخذت تسجل الإرث المادي واللامادي باسمها وتخصص الميزانيات السخيّة للتعريف بثقافتها رغم فقرها في هذا المجال وذلك بسبب تجذر الإدراك أن الثقافة هي الهوية وأن الحروب بكافة أشكالها تبدأ وتنتهي ولكنّ سرّ استمرار الحضارات والشعوب هو استمرار إرثها الثقافي والحفاظ عليه وتطويره وتألقه وازدهاره.

من هنا سعدت أيما سعادة أن أطلع على معرض الكتاب في العراق والذي يعقد للمرة الثانية هذا العام تحت عنوان “النخلة والشعب” عنوان رواية محمد غريب فرمان ، وأسعدت أكثر حين تابعت الإقبال الشبابي على المعرض وشراء الكتب الورقية وتبرع وزارة الثقافة العراقية بعشرات الآلاف من الكتب لإهدائها للقراء وفضول اليافعين للاطلاع على أسس نظم الشعر العربي التقليدي ومراجعة ما كتبه الآباء والأجداد لتشكيل مخزون ثقافي معرفي لدى هذا الجيل لن تتمكن الشبكة العنكبوتية ولا وسائل التواصل الاجتماعي من التعويض عنه خاصة وأن الكثيرين من المطلعين يدركون أولاً أن المساهمة العربية في المنشور على النت هي مساهمة متواضعة ناهيك عن أن هذا المنشور مليء بالأخطاء ولا يمكن الرّكون إليه كمصدر حقيقي للمعرفة.

تزامنت متابعتي لمعرض الكتاب هذا في بغداد وقرب افتتاح شارع المتنبي، المشهور عالمياً أنه “شارع الكتاب”، مع تسجيل القدود الحلبية السورية في منظمة اليونيسكو بجهود ومتابعة حثيثة من السيدة أسماء الأسد بعد أن سجلت الملكية الفكرية لخيال الظل أيضاً منذ عامين، كما تزامنت مع تسجيل الفلسطينيين الثوب الفلسطيني والتطريز الفلسطيني ملكية فكرية للفلسطينيين طورتها جداتهم على مدى آلاف السنين.

إن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على تنامي الوعي لطبيعة المعركة القادمة أو التي بدأت بالفعل وهي معركة المعرفة والثقافة والملكية الفكرية. والسؤال هو: هل يبشر كل هذا ببدء معركة الوعي للاهتمام بثقافتنا وتاريخنا وهويتنا والحفاظ عليها وتطويرها بما يمكننا من كسب أصعب المعارك ألا وهي معركة الصمود والارتقاء؟

بوابة الثقافة واللغة العربية الواحدة أداة الإنتاج الفكري والمعرفي في كافة أقطار وطننا العربي تتجاوز الحدود القطرية وتلِج الأمصار العربية من أوسع أبوابها؛ حيث تنكفئ سايكس بيكو وتتلاشى مفاعيلها بين أبناء الضاد الذين يقرضون الشعر نفسه ويكتبون الرواية والقصة نفسها ويتقنون لغة منّ الله عليهم بها وهي من أجمل وأغنى لغات الأرض.

من بوابة الثقافة تُختزل المسافات وتختفي الحدود المصطنعة وتتلاقح الأفكار والآراء وتولّد المشتركات بين أبناء الأمة ليس في الثقافة والمعرفة فقط وإنما في فهم الماضي واستدراك الحاضر والتطلع إلى مستقبل أفضل.  والأرض خصبة هنا والمشاعر مفعمة والإيمان متجذر على مستوى الشعوب وبغض النظر عن وضع الحكم والحكومات؛ وإلا كيف نفهم أن يتحول كأس العرب إلى كأس فلسطين وأن يعمد الفريق الجزائري والتونسي والحاضرون والضيوف من العرب إلى رفع علم فلسطين قبل رفع علم بلدانهم. أوليس هذا مؤشراً إلى مرحلة جديدة من الوعي بالهوية وطبيعة الصراع؟

معركة الوعي هي معركتنا الحقيقية الحالية والمستقبلية: الوعي بهويتنا وبحضارتنا وبقيمنا وبتاريخنا وبضرورات وأساسيات تطورنا وارتقائنا. يشوب معركتنا هذه ضخّ إعلامي يومي مكثف من قبل الخصوم والأعداء والمطبعين والمهرولين هدفه دبّ اليأس في النفوس والإصرار على أن العدو جبروت لا يُقهر وأنه من العبث التصدّي له ومقارعته. هدف هذا الإعلام هو عدم السماح لمعركتنا بالانطلاق وتقويض عوامل نجاحها قبل أن تبدأ ولذلك فإن المرحلة الأولى في معركة الوعي هذه هي استعادة الثقة بالنفس والإيمان بأننا قادرون على أن نعيد الأمور إلى نصابها الصحيح وأن نعيد موازين القوى إلى ماهي عليه بالفعل بعيداً عن الترويج الكاذب والتهويل الذي اعتمده عدونا حتى في حروبه ضدنا ليرتكب مجزرة هنا وهناك يروّع من خلالها الأهالي ويرغمهم على النزوح فقط ليحتلّ أرضهم ويسرق تاريخهم وموروثاتهم ويدّعي الغلبة والتفوق عليهم.

والمرحلة الثانية هي أن نغرس أقدامنا أعمق وأعمق في أرضنا الطيبة وألا نسمح للرياح مهما عتت أن تزحزحنا من مكاننا ومكان آبائنا وأجدادنا وأن نروي قصصنا وتاريخنا بأنفسنا وأن نسجل ما نملكه من حضارة وإرث وتاريخ باسمنا وأن نقرأ ونكتب وننتج المعرفة ولا نسمح لأحد أن يتحدث باسمنا أو يروي روايات قضايانا، بل أن نكون حاضرين في كل درب وعلى كل مفرق وفي كل لغة ومنصّة؛ فالمعقل الأخير لوجودنا جميعاً هو هويتنا وألوان هذه الهوية ومكوناتها وتاريخها وقدرتها على الاستمرار والتألق والعطاء، وماعدا كل ذلك فهو عابر ولن يتذكره أحد.

لنقلْ جميعاً: “أنا عربي أنا أقرأ، وأنا عربي أنا موجود هوية ولغة وحضارة وقضية”، لا يستطيع أحد أن يغتصبها بتغيير الأفعال والأسماء؛ فهي موجودة وشامخة رغم كل التهويل والكذب والإسفاف الذي سوف يذهب جفاءً، بينما يبقى ما نفعله نحن وما نخطّه ماكثاً في الأرض.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى