الولايات المتحدة: انكشاف الزيف!: د. عدنان منصور*
توقف العالم مليّاً بعد كلّ الذي شاهده من خلال متابعته مسار عمليّة الانتخابات الرئاسية الأميركية ومجرياتها لحظة بلحظة، وما رافقها من سلوك المرشحين وأدائهم وتصرّفات مؤيديهم، وردود أفعالهم، والشتائم والاتهامات المتبادلة بين المرشحين للرئاسة جوزيف بايدن ودونالد ترامب، التي انحرفت وابتعدت كثيراً عن الأصول، واللياقات، والتقاليد السياسية لدولة عظمى، آثرت دائماً أن تقدّم نفسها للعالم كنموذج يثير الإعجاب والاحترام لديمقراطيتها وحياتها السياسية، ونهجها الانتخابي، المؤدّي الى انتقال سلس وطبيعي للسلطة. إذ إنّ هذا النهج أريدَ منه أن يجسد روح الديمقراطية والقرار الحر للناخب الأميركي، حيث تحرص الولايات المتحدة على ثباته واستمراريته، والتباهي به.
لكن ما شاهده العالم قبيل بدء العملية الانتخابية وأثناءها وبعدها، يجعل المراقب للأمور يظنّ للوهلة الأولى، انه أمام دولة ناشئة في طور النمو السياسيّ، وليس في دولة عظمى تتواجد في كلّ مكان، وعلى مساحة القارات،
تؤثر منذ عقود طويلة على مجريات وتطورات الاحداث، وتصنع السياسات والقرارات في العالم، وتجرّ العديد من دوله الى دائرة هيمنتها ونفوذها وتسلطها.
فأيّ دولة هي هذه الدولة العريقة في «ديمقراطيتها» عندما يعلن رئيسها فوزه بالرئاسة قبل انتهاء العملية الانتخابية؟! وأيّ ديمقراطية هي ديمقراطية هذه الدولة عندما يتهم رئيسها المؤسسات الانتخابية بالتزوير والفساد؟! وأيّ ديمقراطية لدولة يتحدث عنها رئيسها، عندما يعلن بنفسه فوزه رغم الإعلان عن النتيجة التي أسفرت عن فوز منافسه جوزيف بايدن، ليقوم بعد ذلك بتأليب أنصاره وحشدهم للتظاهر والتنديد بالانتخابات ونتائجها؟
كيف يمكن لرئيس دولة عظمى، يريد تعميم الديمقراطية على دول العالم، ويندّد «بديكتاتورية» الدول التي تعارض سياساته، ويتهمها بكبت أفواه شعوبها، وبتزوير الانتخابات فيها، وهو الذي يشكك ويرفض نتائج الانتخابات، ويتجاهل الوقائع والنتائج التي تثبت حصول منافسه بايدن على
306 من أصوات كبار الناخبين، مقابل 232 لصالحه؟!
رغم كلّ ذلك يصرّ ترامب على اعتبار نفسه فائزاً، رافضاً الإقرار والاعتراف بالهزيمة، ضارباً عرض الحائط بالتقاليد والأعراف السياسية الأميركية المتبعة، ومستمراً في تشكيكه، وتوجيه النقد الجارح يميناً وشمالاً، وإطلاق الاتهامات بالتزوير والفساد الذي رافق العملية الانتخابية، متجاهلاً بيان السلطات المحلية والوطنية المكلفة أمن الانتخابات، لا سيما وكالة الأمن السيبراني، وأمن البنية التحتية التابعة لوزارة الأمن الداخلي، الذي جاء فيه: «أنّ انتخابات 3 تشرين الثاني كانت الأكثر أماناً في تاريخ الولايات المتحدة». فهذا البيان جاء ليدحض مزاعم وادّعاءات الرئيس ترامب التي تؤكد على حصول عمليات تزوير واسعة للانتخابات.
بعد هذه المهزلة التي شهدها العالم على مدار أسابيع، وأحاطت بهمروجة الانتخابات، وتصرفات المرشحين، وما رافقها من اضطرابات وحوادث عنف شهدتها أكثر من ولاية أميركية، ناهيك عن ظهور جماعات من المسلحين المدجّجين بالسلاح، مؤيّدين لهذا المرشح أو ذاك، وحصول مناوشات، وعراكات وشتائم جرت في الشوارع والساحات بين مؤيدين ومعارضين لكلا المرشحين، نقول: إنّ زيف الديمقراطية الأميركية كشف على الملأ، حقيقة السلوك والفوارق الاجتماعية، والانقسامات الحادة بين الأميركيين، والتمييز العنصريّ المتجذر في النفوس من خلال السلوك والممارسة والأداء. وأنّ الولايات المتحدة آخر من
يحقّ لها الكلام بعد اليوم، لتقييم انتخابات دول العالم وإعطائها العلامة التقديرية، وهي التي بانتخاباتها الرئاسية، كشفت عورات الديمقراطية الأميركية بأبعد حدودها، على يد الرئيس الأميركي الذي ندّد بالعملية الانتخابية لعدم نزاهتها وشفافيتها، واتهمها بالتزوير والفساد.
هذه المرة، تجد الولايات المتحدة نفسها تحت مجهر تقييم الدول والشعوب لها، ولديمقراطيتها التي وضعت على المحك، والتي عبث بها رئيسها الخاسر ومَن لفّ لفّه.
لا يحق مطلقاً بعد اليوم للولايات المتحدة، ولا لأي مسؤول فيها أن ينصّب نفسه شرطياً وقاضياً وحكماً، لتقييم سياسات الحكومات، ونزاهة العمليات الانتخابية التي تجري في دول العالم، أياً كان نوع هذه الانتخابات.
فالدولة التي يشكّك رئيسها في انتخابات بلده، ويعتزم رفع دعوى قضائية لما شابها ـ من وجهة نظره ـ من تزوير وفساد، آخر من يحقّ لها الكلام والتقييم والانتقاد، أو الثناء على نزاهة الانتخابات أو التنديد بها، التي تحصل وستحصل في دول العالم.
إنّ من أعطى الصورة المشوّهة القبيحة لمجريات عملية الانتخابات الرئاسية، سيحمل الدول في المستقبل، التي تتعرّض للنقد والتشكيك في نزاهة انتخاباتها، لتقول للولايات المتحدة بصوت عال: التزمي الصمت! فأنت التي قدّمت للعالم نموذجاً سيئاً للانتخابات الرئاسية، آخر من يحق لك الكلام، والتقييم، وإعطاء الدروس !
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.
(البناء)