مقالات مختارة

بعد فرض الإغلاق: هل نُجبَر على تشريع الموت الرحيم؟: حبيب معلوف

تسبّبت جائحة «كورونا» وكيفية التعامل معها بفوضى في الأنظمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والصحية والبيئية… لا يمكن التكهن كيف ستنتهي وأيّ تغييرات ستحل بعدها. ولعل أول هذه التغييرات التي بدأت بالظهور والتي يمكن ترقّب حصولها، هو الفوضى التي ضربت أنظمة القيم السائدة التي نعرفها. فما هي هذه القيم التي تعرّضت لهزات كبيرة، ولا سيما بعد الكوارث الصحية (جائحة كورونا) التي ضربت، وظاهرة تغير المناخ التي بدأت والمنتظر تطورها بشكل أكبر؟

 

وفق أيّ قواعد سلوك سيتم التعامل مع الإنسان أو مع المرضى أو المصابين والمنكوبين؟ ما هي القيم العليا التي يفترض المحافظة عليها وما الذي يمكن التضحية به في السياسات، ولا سيما الصحية والبيئية منها؟ هل ستكون القيمة التي يفترض حمايتها وتحصينها تلك التي تُعنى بطول الحياة أم بنوعها؟ هل ستكون القيمة للحياة اليومية فيعيش الإنسان يومه فقط أم يعاد الاعتبار إلى التخطيط للمستقبل (مع إعادة الاعتبار لإعادة استحداث وزارة التخطيط طالما نحن في صدد تشكيل حكومة جديدة لديها «مهمة») ؟

هل يفترض الحفاظ على العدد الأكبر من الناس أم العدد الأقوى أم الأسلم! الأفقر أم الأغنى؟ حياة المضمونين أم المؤمّنين أم كل الناس؟ لأصحاب المال الكثير والوفير أم لحملة «الكاش»؟ للصوت الأعلى أم الأخطر، أم تشمل من لا صوت لهم أيضاً؟ لمن ولماذا تعطى الأولوية عندما يزداد الوضع حراجة؟

وإذا كان هناك من ضرورات للتدخل لحماية الصحة والبيئة، ما هي حدود التدخل المقبول وأين؟ في الطبيعة أم في الجينات أم في الولادات أم في الشيخوخة؟ وفي حالة الأزمات والكوارث الصحية والبيئية كمثل التي نعيشها، كيف يمكن أن تحصل المفاضلة في الرعاية والعناية (وخصوصاً الفائقة) بين الطفل والشاب والكهل… وعلى أية قواعد؟ وماذا عن «الموت الرحيم»؟ هل سيصبح قاعدة وتقليداً جديداً، خصوصاً في الأزمات الكبرى حين تنفد أسرّة المستشفيات أو غرف العناية الفائقة للمرضى؟ ومن يتخذ قرار الموت الرحيم، الأهل أم المستشفى أم الطبيب أم وزارة الصحة أم الجهات الضامنة أم المرضى أنفسهم، في حال كان بإمكانهم ذلك؟

هل يتلقّف مجلس النواب، ولا سيما لجنتا الصحة والبيئة عندنا، هذه المسألة وتتم مناقشتها وتشريعها وضبطها ضمن قوانين وقواعد محددة، تستند إلى فلسفة قيم محددة؟ ألا يفترض التحضير لذلك بإنشاء لجنة طوارئ صحية بيئية وعلمية، أوسع من المعتمدة حالياً في أزمة الوباء والتي تضم بالإضافة إلى علماء الفيروسات، فلاسفة ومتخصّصين في الأخلاقيات العلمية والصحية والبيئية وممثلين عن النقابات المعنية، بالإضافة إلى ممثلي الوزارات والجامعات… الخ

من الواضح أنه لم يعد كافياً الاتكال على اللجنة العلمية الحالية لمناقشة كل هذه القضايا التي تتجاوز البحث في قرارات الحجر والإقفال والموازنة بين الضرر الاقتصادي أو الاجتماعي من جهة والوفيات التي يمكن تجنّبها. كما لا يمكن تحميل كل هذه المخاطر والأسئلة المصيرية لعلماء الفيروسات وحدهم، ولا للمجلس الأعلى للدفاع بالطبع! كما يفترض، على السياسيين والهيئات الاقتصادية، عندما تصبح الأمور في غاية الخطورة والحراجة، مقاومة إغراءات الحسابات النفعية والاتجاه نحو الخيارات التي باتت تُصنف «وجودية». وهنا ينبغي أن تفرض القضايا المستجدة نفسها وتبرز الحاجة إلى أخلاقيات جديدة بعد هذه الكوارث التي مررنا فيها… وتلك المنتظر حصولها أيضاً.

يقال إن أول قانون عرفته البشرية هو قانون منع «سفاح القربى». وأن هذا القانون لم يفرض نفسه لأسباب أخلاقية فقط، بدت طبيعية، بل بسبب ظهور ولادات مشوّهة بسبب زواج الأقرباء. ولذلك تم تحريم زواج ذوي القربى تجنباً لظهور أولاد لديهم تشوّهات خلقية معينة. تؤشر هذه القصة العلمية التي يخبرنا بها ويقدرها بعض علماء الانتروبولوجيا، إلى أن أسس الأخلاق ليست أخلاقية بالضرورة. ولا تأتي نتيجة خيارات أو وعي أو نتيجة تبني فلسفات عقلانية جديدة. بل تأتي بعد كوارث وتطورات دراماتيكية تفرض نفسها كإجراءات ضمن قواعد حفظ النوع أو تلبية لغريزة البقاء.

لا حاجة الآن إلى برهان بأن العالم يعيش في ظروف دراماتيكية على كل الصعد الاقتصادية والمناخية والصحية… فما الذي يمكن انتظاره؟

فرض «كوفيد 19» بقاء الناس في المنازل وعزل أنفسهم. وهو أقسى ما يمكن أن يصدر من أحكام على الإنسان الحديث. فالعزل في العصر الحديث يعني السجن، بالرغم من كل ما يقال ويُروج لعصر التواصل الاجتماعي الوهمي. وهذا في النهاية ما يهدد الأنظمة الليبرالية ومفهوم الحرية الفردية الذي قامت عليه، وقد تم تعيير الأنظمة الديكتاتورية بإهماله. فهل نحن أمام قيم وأفضليات جديدة تقول بأن الحق بالحياة أولى من الحق في الحرية؟ ومن يقرر ذلك؟ الفلاسفة أم رجال الدين أم العلماء أم الأنظمة؟ ومن يضمن أن لا تعود الأنظمة إلى الديكتاتورية بحجة حفظ الحياة والصحة والسلامة العامة؟

موضوع آخر يفترض أن يتغير بعد هذه الجائحة وأمثالها، هو تراجع قيمة الدولة القومية أو الوطنية. فإخفاء المعلومات المتعلقة بأي كارثة يمكن أن يؤدي إلى زيادة انتشارها، في عالم معولم ومفتوح تنتقل فيه الأمراض بسهولة انتقال البضائع والأشخاص… ما يحتم البحث عن قيم جديدة ما بعد الوطنية تحمي «مواطن العالم». صحيح أن اليمين المتطرف في كل دولة يمكن أن يستغل هذه الجائحة أو غيرها من الكوارث البيئية والصحية، بشكل مغاير، للضغط على المهاجرين أو العناصر أو الفئات الأضعف في المجتمعات… إلا أن استحالة إقفال الحدود، في زمن تسيطر عليه المصالح التجارية التي تحتاج إلى أسواق مفتوحة باستمرار، ستتكفل بتقويض مزاعم اليمين المتطرف بالانغلاق، بالإضافة إلى إمكانية فرض قضايا مثل تغير المناخ وكوارثها شروطها على العالم كلما تقدم الوقت ولم تتعاون الدول للتخفيف من الانبعاثات التي تتسبب بمفاقمتها. فهل ننتظر أن تتفاقم الأمور وتأخذ أشكالاً أكثر دراماتيكية لنبدأ التفكير بإجراءات مختلفة وطرق تقييم استشرافية جديدة تتماهى مع الكوارث المستجدة أم ننتظر وقوع الأسوأ ونعرّض أنفسنا لفوضى أكبر يستحيل معها التفكير بهدوء واتخاذ القرارات العقلانية والحكيمة؟

(الاخبار)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى