مقالات مختارة

ما بعد التكليف…
التوليف والتأليف!: د. عدنان منصور _

مما لا شك فيه، أنّ مسؤولية الرئيس سعد الحريري الذي وقعت على عاتقه مهمة التأليف، بعد التكليف، تأتي في ظل وضع اقتصادي ومالي، ونقدي، ومعيشي، وصحي سيّئ للغاية، لا زال يضغط على حياة المواطن أكثر فأكثر، ويعاني منه بشدة يوماً بعد يوم. إذ لم يشهد لبنان مثيلاً له منذ استقلاله وحتى الآن.

 

يعود الرئيس الحريري الى عرين الحكومة بعد تدلل دام لأشهر، وهو الذي استقال بعد حراك شعبي غاضب، متفهّماً مطالب الشعب، وظروفه الصعبة، فاسحاً المجال أمام مخاض عسير آخر، عله يلبّي مطالب الشعب، وحاجاته العاجلة، ومحاربة الفساد والفاسدين، وملاحقة كلّ الذين عبثوا بكرامة الناس، وسرقوا جنى عمرهم، وجوّعوهم، وتلاعبوا بأمن البلد، وثرواته.

ليس بالأمر السهل، أن يستقيل رئيس حكومة بسبب حراك شعبي واسع النطاق، وأوضاع اجتماعية ومعيشية منهارة، ثم يعود إلى حلبة الحكومة مجدّداً، لينقذ بنفسه البلد مما هو فيه، وكأنّ معجزة كبيرة ظهرت، وأعجوبة سطعت وحلت على هذا البلد، بمفهوم خلاق، وأداء وسلوك ونهج متميّز، وعقلية متنوّرة جديدة، تنقل الوطن من مكان الى مكان آخر، تثلج قلوب اللبنانيين المعذبين، والمقهورين الذين عانوا على يد الحكومات السابقة، وزعمائهم، وحكامهم، ومسؤوليهم، الأمرّين، نتيجة سياساتهم الفاشلة الفاسدة المدمّرة، وما تسبّبوا به من إفلاس المواطنين، وإلحاق المصائب بهم، على مدار عقود، أوصلت البلد الى الحالة المزرية البائسة التي يعيشها اليوم.

عاد الرئيس سعد الحريري على حصان أبيض، بعد الحراك الشعبي ومطالبه التي رفعها في وجه الطبقة السياسيّة. لكن هل عادت فعلاً ثقة المواطن بالدولة بحكامها، ومسؤوليها، وسياساتهم، ووعودهم الواهية؟! وهل عودة الرئيس الحريري ستلبّي طموحات الشعب، وتُعطيه الأمل بغد مشرق عزيز، أم أنّ الإحباط وعدم الثقة سيظلّ يلازمانه نظراً لتجارب الشعب المرة مع حكوماته، حتى يرى بأمّ عينيه صدقية المسؤولين، ومدى اقتران الأقوال بالأفعال ولو لمرة واحدة!

وهل يعتقد اللبنانيون المحبطون، ومعهم “حراكهم الشعبي” أنّ عودة الرئيس الحريري، ستحقق مطالبهم، وستنقذ لبنان من كلّ فاسد، وتعاقب كلّ من عبث بقوت المواطن، وأثرى على حساب البلد والشعب، وتلاحق أمام القضاء كلّ من انغمس بالفساد أياً كان موقعه وشأنه؟! وهل عودة الرئيس الحريري على رأس الحكومة، ستعطيه العزيمة والإرادة الصلبة، كي يستردّ الأموال المنهوبة المهرّبة من قبل لصوص المال الحرام، ومحاكمتهم دون هوادة؟!

وهل حكومة الرئيس الحريري على استعداد لفتح أبواب ملفات الفساد على مصراعيها، بشفافية كاملة، من التدقيق الجنائي، الى جريمة المرفأ، وملفات المصارف وتهريب الأموال، وتورّط مسؤولين في صفقات الكهرباء، والاتصالات، والمحروقات، والاحتكارات، والأملاك العامة البحريّة والبرية، ودوائر الميكانيك، والتوظيف غير القانوني، وملاحقة الفاسدين المتجذّرين في مرافق الدولة وعلى مختلف المستويات!

ليست مهمة الرئيس الحريري بالأمر السهل. ولا يُحسد عليها، إذ لا مجال بعد اليوم، للمماطلة والاستهتار، وإطلاق الوعود المخدّرة، واللجوء الى المساومة، وتقطيع الوقت، والمناكفة والعناد، وتصفية الحسابات بين الأطراف السياسية… لأنّ الحكومة “العتيدة” المقبلة ستكون تحت المجهر، ولا مهادنة لها. فالوضع لم يعد يحتمل مطلقاً،

المزيد من الانهيار، حيث أصبح الشعب ايضاً ومعه كلّ الوطن، على حافة الانفجار.

بعد التكليف، مهمة عسيرة ستقع على عاتق الرئيس الحريري، وهي التوليف بين الأفرقاء قبل التأليف. هنا تكمن المهمة الصعبة الثقيلة، خاصة أنها ستجمع تناقضات المكونات السياسية، في بوتقة حكومة يطلق عليها شكلاً حكومة الوحدة الوطنية. فأيّ توليف سيسعى إليه الرئيس المكلف، ويعمل على نسجه بين الأفرقاء، والإخوة الأعداء، لتحقيق التناسق والانسجام بينهم؟! مهمة صعبة ومعقدة، خاصة أنّ الرئيس الحريري سيجد أمامه من يطالب، من يتحفظ، مَن يرفض، من يضع شروطاً، من يتمسك بوزارة ما، من يعترض عليها، من يسهّل ومن يشترط، من يبتز ومن يطلب المزيد

فهل يتمّ التوليف بين الأطراف في أقرب وقت وصولاً الى التأليف، ومن ثم الإقلاع بالحكومة، وتنفيذ بيانها الوزاري المنتظر نصاً وروحاً، وتحقيق وعودها المنتظرة على الأرض، لتكون هذه المرة علامة فارقة في تاريخ الحكومات اللبنانية التي كثرت فيها وعود بياناتها، التي لم ينفذ منها إلا القليل القليل! بيانات لم تعكس يوماً، آمال وتطلعات ورغبات اللبنانيين، وتستثمر إمكاناتهم وتأخذها بالاعتبار.

الفارق بين الأمس واليوم، هو أنه بالأمس، كان المواطن يصبر ويعضّ على اصبعه، معلقاً آماله الواسعة على غد واعد، يحدث التغيير والإصلاح المطلوب. إلا أنه اليوم وللأسف الشديد، فقد سحب منذ زمن طويل، ثقته بطبقته السياسية وأدائها المهترئ التي أدارته به البلد، وبالتالي لم يعد الشعب يحتمل الصبر والإذلال والفقر والجوع، والبطالة على يد الطغمة الحاكمة.

إنها الفرصة الأخيرة أمام الرئيس سعد الحريري، فإما أن تقلع طائرة الحكومة نحو الهدف الذي يريده الشعب، ولا غيره، وإما أن تسقط بكامل حمولتها وركابها وطاقمها سقوطاً مروعاً، تضع البلد كله في ما بعد أمام كارثة كبيرة، تطال الوطن والشعب على السواء، وتهدّد وحدته ومستقبله ومصيره.

الى دولة الرئيس سعد الحريري نقول: حان وقت الإنقاذ والإصلاح. وكيف الحال إذا كان الإنقاذ يتعلق بمصير وطن، وبآلام وطموحات شعب أبي، يبحث باستمرار عن رجل دولة منقذ، معدنه من معدن الرجال الذين يتركون بصمتهم الخالدة في ذاكرة الوطن وشعبه!

إنه شعب يبحث عن مسؤولين شرفاء نزيهين، نظيفي الكف، لا تحرّكهم الصفقات، ولا تسيل لعابهم المكرمات، ولا يهرولون للسفارات، ولا يمسكون بالاحتكارات، ولا تغريهم التلزيمات، ولا يركضون وراء السمسرات، ولا يلهثون وراء المقاولات، ولا يكون شاغلهم رعاية الحاشية، وحماية المحاسيب والأزلام والمنتفعين والمحظوظين!

إنها فرصة أخيرة للإنقاذ والتغيير، ومن ثم الإصلاح. فهل يتحقق ذلك على يد رئيس حكومة، كان على رأسها لأكثر من مرة!

لقد انتظرنا الوعود المعسولة المرة تلو الأخرى من الحكومات العديدة وعلى مدى عقود طويلة، فلننتظر اليوم قليلاً لنرى ونسمع تقييم المواطن لحكومة “الإنقاذ” والمنقذين المقبلة. فالحكم النهائي بحقها، سيصدره الشعب بنفسه في ما بعد، ولن يصدره الغير باسم الشعب. حكم نأمل منه، كما يأمل منه كلّ اللبنانيين، ان يكون ولو لمرة واحدة لصالح الحكومة ورئيسها وإنجازاتها.

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

(البناء)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى