مقالات مختارة

حياد لبنان: الواقع والمحال… وماذا بعد المطالبة به! (1): د. عدنان منصور*

يطرح البعض في لبنان من آن الى آخر، موضوع حياده. حيث يرى فيه هؤلاء، تحييد لبنان عن الصراعات السياسية والعسكرية، ويبعد عنه شبح الحرب نهائياً، ويجعله واحة سلام دائم، ما يشكّل حماية وتحصيناً لشعبه ولاستقلاله الوطني، واستتباباً لاستقراره الداخلي، ويمنع بالتالي العبث في شؤونه الداخلية، والاعتداء عليه.

 

هذا المفهوم يدخل في إطار النظرية الشاملة، من دون الأخذ بالاعتبار الواقع اللبناني الحقيقي، خاصة أنّ حقائق تاريخية وجغرافية وقومية وديموغرافية واستراتيجية وأمنية وسياسية وثقافية، تفرض نفسها بكلّ قوة على الساحة اللبنانية والإقليمية والدولية، لتحول دون تحقيق رغبات البعض من الذين ينادون اليوم بحياد لبنان.

 الحياد يحتاج أولاً الى رؤية واضحة، ومعطيات واقعية على الأرض، وحلول مجدية دائمة، تعبّر عن تطلعات واهداف الأطراف المعنية كافة في الداخل اللبناني. وثانياً، تقبّل الجهات الإقليمية والدولية التي تهيمن وتتصارع في مصالحها على المساحة الجغرافية لمنطقة الشرق الأوسط، وبشكل خاص، على الساحة المشرقية لغربي آسيا.

مما لا شك فيه أنّ هناك معضلات وعوائق شائكة لا بدّ من التوقف عندها، في كلّ مرة يجري فيها الحديث عن  حياد لبنان والمطالبة به. فالحياد لدولة ما، ليس أمراً سهلاً لتحقيقه والأخذ به، في عالم تتجاذبه الصراعات والحروب المتنقلة، والتنافس الاقتصادي والتجاري والمالي، وأيضاً سعي الدول الكبرى المؤثرة، لإيجاد مناطق نفوذ لها، بغية الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية. إضافة إلى ذلك، هشاشة الداخل اللبناني وتشرذمه وتفكّكه وانقسامه عمودياً، وكذلك التباين الحادّ في وجهات النظر حيال القضايا الوطنية والقومية، والمواقف الإقليمية والدولية. وكذلك عدم إيجاد صيغة توافقية سليمة وفاعلة لمفهوم الحكم والنظام، والإصلاح والحوكمة الرشيدة عند السياسيين والمسؤولين اللبنانيين، وأيضاً الخلل في التوازنات الداخلية، والضغوط الطائفية، بسبب قلق البعض من الواقع الديموغرافي وهواجسه من المتغيّرات على الأرض، وشعور البعض الآخر بالغبن والتهميش. ناهيك عن تعقيدات الداخل، والتجاذبات والتأثيرات الإقليمية، التي لا تسمح بالذهاب بعيداً في المطالبة بحياد لبنان لأسباب وجيهة عديدة أبرزها:

1 ـ من الصعوبة إبعاد لبنان عن صراعات المنطقة، فهو وإنْ أراد الابتعاد عنها نظرياً، فإنّ طبيعة الصراعات الناجمة عن قيام دولة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وسيطرتها على أجزاء من الأراضي العربية ومنها لبنان، تجعله في صلب القضية شاء أم أبى. فكيف للبنان ان يحيّد نفسه سياسياً وعسكرياً وأمنياً وقومياً عن الصراع في المنطقة، والكيان الصهيوني الغاصب على حدوده الجنوبية، يسيطر على أجزاء من أرضه، ويهدّد وجوده باستمرار، ويطمع ويتربّص بثرواته ومياهه، وله شهية كبيرة على التوسع، والقضم والضمّ، غير عابئ مطلقاً أو مكترث بالاتفاقيات والقوانين الدولية ذات الصلة بالقضايا العربية، وهو الذي ما أنفكّ على ضرب قرارات المجتمع الدولي عرض الحائط!

2 ـ لم يستطع النظام السياسي ومعه الطبقة الحاكمة منذ استقلال لبنان عام 1943 وحتى اليوم، ان يصهر مكونات شعبه في إطار مفهوم وانتماء وطني جامع. فالحكم والنظام الطائفي المترهّل، كان عائقاً دائماً أمام وحدة اللبنانيين، وتطوّرهم سياسياً وثقافياً وعقائدياً واستراتيجياً وقومياً وتنموياً. إذ لم يستطع النظام الطائفي نتيجة تعقيداته الداخلية، وحساسيات البعض وحساباتهم الضيقة، ان يحقق للبنان استراتيجية دفاعية للتصدّي لأيّ عدوان يقع على أرضه، مثل ما فعلته سويسرا مثلاً. بل آثر اعتماد مقولة فريدة غريبة، ومعادلة تافهة لم يعرفها العالم أبداً، وهي «أن قوّة لبنان في ضعفه». كما أنه لم يستطع رغم قلة عدد سكانه، ومساحة أرضه الصغيرة، أن يوفر لشعبه الإنماء المتوازن بين المناطق، والتنمية المستدامة التي تقلّص الهوّة الكبيرة بين طبقات الشعب. ولم يستطع بالتالي أن يطلّ على العالم بقرار سياسي موحّد حول قضية رئيسة أم استراتيجية تتعلق به، في وقت لم يتوقّف فيه المسؤولون يوماً، عن إبداء حرصهم على الوحدة الوطنية وتغنّيهم بالعيش المشترك، من خلال تصريحاتهم التي لا تتوقّف، مما يدلّ على انّ تصريحاتهم هذه، دليل على وجود خلل ما في تركيبة ومفهوم الوحدة الوطنية والعيش الواحد، حيث يتحمّل مسؤوليته حكّام لبنان وزعماؤه، الذين لم تكن لديهم النيات الطيبة، والإرادة القوية، لإخراج لبنان من دولة الطوائف، الى الدولة القومية، الوطنية الجامعة الموحدة. كما انّ زعماء الطوائف السياسيين والروحيين، لم يتوصّلوا الى اعتماد تاريخ موحّد للبنانيين، يصقل تربيتهم المدنية، وحسّهم الوطني، وتقييم ماضيهم وحاضرهم من خلاله، بحيث بقي تاريخ لبنان حمّال أوجه ووجهات نظر مختلفة، تتجاذبه المواقف المتعارضة والانتماءات المتناقضة والأحكام المسبقة، والحساسيات المفرطة، والعقليات المتزمتة، والتجاوزات التي تبعد الأجيال اللبنانيّة عن حقائق دامغة، ووقائع موثّقة، ومعطيات مثبّتة عن تاريخ بلدهم، مهما كانت هذه الحقائق والوقائع والمعطيات صادمة للبعض. فالتاريخ لشعب يجب أن يُقرأ بكلّ أمانة وموضوعية كما هو، وليس كما يقرأه البعض بخلفيات متعمّدة، يريد من خلالها تشويه حقائق التاريخ وتزويره وتحويره وتلفيقه لغايات ضيّقة مشبوهة.

هل استطاع حكّام لبنان وسياسيوه وزعماء الطوائف الروحيون ان يعزّزوا الثقة العالية في ما بينهم، من دون مواربة او مجاملة او مزايدة او خوف من واقع الديموغرافيا والتحوّلات الداخلية والإقليمية والدولية، لا سيما تأثيرات دول الجوار والدول الكبرى؟! وهل استطاع زعماء الطوائف السياسيون والروحيون، ان يبنوا دولة المواطنة الحقيقية، ويؤسّسوا لأرضية خصبة، تحقّق العدالة الاجتماعية والسياسية والمعيشية وتكافؤ الفرص والنزاهة، والقضاء العادل الشفّاف، بمعزل عن حسابات السياسة والسياسيين الضيّقة، وترسيخ ثقة الشعب بدولته وحكّامه؟! فأيّ حياد لدولة فاشلة لم تستطع أن تصون بلداً وشعباً على مختلف الصعد، ليطلّ من يطلّ علينا في ما بعد، لينادي بحياد لبنان! وهل بإمكان وقدرة دولة فاشلة في لبنان، لم تستطع أن تبني وطناً وتصونه، يمكن لها أن تضمن حياده أمام العالم وأمام العدو المتربّص بها!

3 ـ ما هو النظام السياسي الذي يريده دعاة الحياد للبنان، أهو نظام المواطنة والعلمانية، أو نظام الطوائف والعشائرية؟ نظام الحصص والمحسوبيات، أو نظام العدالة والكفاءات؟ نظام 6 و6 مكرّر، أو نظام الجدارة والنزاهة؟ نظام أصحاب الحظوظ أو نظام أصحاب العقول؟ نظام المحاسبة والمساءلة، أو نظام الخطوط الحمر والمجادلة؟ نظام الانصهار الوطني أو نظام التسلّط والاستئثار الطائفي؟ نظام التمثيل الوطني الجامع، أو نظام الحصص والتمثيل الاقطاعي والتوريث السياسي؟ نظام المبادرات والمنافسة، أو نظام الاحتكارات والتلزيمات والصفقات والمحسوبيات؟

كيف يمكن الحديث عن حياد بلد، لم يستطع نظامه الطائفي الفاشل، أن يوفّر الحدّ الأدنى من الشفافية في ممارسة الحكم وإدارة المؤسسات، وأن يحظى على ثقة الشعب به بعد 77 سنة من الاستقلال؟!

قرار الحياد لا بدّ له من أن يحوز على موافقة أغلبية الشعب، باستفتاء حرّ يعبّر عن إرادته وقراره. وهذا أمر يصطدم بالانقسام السياسي والعقائدي الداخلي، الذي ما زال يطرح نفسه بكلّ قوة على الساحة الداخلية. أضف الى ذلك، انّ انتماء لبنان الى جامعة الدول العربية مع أشقائه العرب، وهو من أوائل مؤسّسيها، يطرح أيضاً أسئلة عديدة حول مدى التزام لبنان بها، وبقضاياها في ظلّ حياد مطلوب، ومدى الاستمرار في التنسيق مع الجانب العربي والأخذ بالقرارات التي يتبنّاها، وستتبنّاها الجامعة العربية في ما بعد، وتصبح إلزامية للجميع، ومن التزاماته المبدئية تجاه القضية الفلسطينية وموقفه من دولة الاحتلال، وحقوق الشعب الفلسطيني ونضاله ضدّ المحتلّ، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، والتزامه باتفاقية المقاطعة العربية لـ «إسرائيل» التي وقّع عليها لبنان مع أشقائه العرب؟!

وهل الحياد سيجعل لبنان يتمسّك بكلّ ما سبق له أن التزم به حيال العرب وحيال القضية الفلسطينية وصراعه مع «إسرائيل»؟

4 ـ إذا كان البعض يظنّ انّ الحياد يحصّن الأمن القومي والاستقرار الداخلي للبنان، فإنّ حقيقة لا يمكن تجاهلها، وهي أنّ الأمن القومي اللبناني جزء لا يتجزّأ من الأمن القومي للمنطقة المشرقية العربية، يؤثّر ويتأثّر، يفعل ويتفاعل، وهذا ما يضع حياد لبنان في دائرة الصراعات في المنطقة، نتيجة وجود الكيان الإسرائيلي وتهديده الدائم للبنان ودول المنطقة، واستمرار رعاية ودعم الدول الحليفة له منذ نشوئه وحتى اليوم. رعاية لم تمنعه يوماً من القيام بعمل عدواني أو تلزمه على التقيّد بالقرارات الدولية وميثاق الأمم المتحدة واحترامه وتطبيقه له.

كيف يمكن تحييد لبنان وعلى أرضه 400 ألف نازح فلسطيني ترفض «إسرائيل» عودتهم الى ديارهم بموجب القرار الدولي 194؟! وهل باستطاعة «الحياد اللبناني» أن يحلّ مشكلة النازحين وحده؟!

حياد لبنان بالنسبة لـ «إسرائيل» يشكّل مكسباً لها، على اعتبار انّ إمكانات لبنان العسكرية المتواضعة أمام ترسانتها العسكرية الهائلة، ستجعله فريسة في أيّ وقت للانقضاض على ثرواته ومياهه بعد أن يبطل الحياد المطلوب، مقاومة لبنان، ونزع سلاحها، في الوقت الذي تتحصّن فيه «إسرائيل» جراء دعم حلفائها المتواصل لها في الخارج. وهل حياد لبنان سيحافظ على وجود المقاومة ويدافع عنها؟ وهل حياد لبنان سيكون كافياً لحماية أرضه وسمائه وأمنه الوطني؟ ألم يستغلّ الألمان حياد لوكسمبورغ وبلجيكا لاجتياحهما، ومن ثم الزحف إلى فرنسا عبر أراضيهما؟ وما الذي فعله هذا الحياد أمام استخدام القوة وفرض الأمر الواقع؟ وهل يمنع حياد لبنان على المدى القريب أو البعيد ويلجم الشهية التوسعية للعدو الإسرائيلي؟! وهل باستطاعة هذا النوع من الحياد أن يحمي سيادة لبنان والدفاع عن أرضه وشعبه؟! وماذا لو أنّ صراعاً أو أزمة داخلية لبنانية حصلت، فهل سيجنّب الحياد تدخّل الدول الخارجية والتواصل مع الأطراف الداخلية اللبنانية، أو يمنعها عن زجّ نفسها في الصراع والوقوف بجانب فريق ضدّ آخر؟!

كيف يمكن تطبيق الحياد على بلد مثل لبنان هو في قلب الصراع الإقليمي، وهو جزء منه بإرادته أو من دون إرادته؟ وهل لبنان متماسك داخلياً، أو له رؤية سياسية وطنية وقومية واستراتيجية واضحة، كي يتّفق عليها كلّ اللبنانيين أو غالبيتهم؟ كيف يمكن تطبيق الحياد على بلد مثل لبنان مشكوك بكيانه من قبل الدول الكبرى وغيرها في العالم، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية! ألم يأت تصريح وزير الدفاع الأميركي الأسبق كاسبر واينبرغر لصحيفة «الحياة» اللندنية يوم 9 شباط عام 1990، ليؤكّد على نظرة أميركية للبنان عندما قال: «المشكلة في لبنان أنه ليس في الواقع بلداً. كان مجموعة من نوع ما، وشكّله خبراء. وحدوده ليست لها علاقة محدّدة بالجغرافيا والتاريخ، وهو مليء بكلّ أنواع القبائل المتحاربة».

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى