مقالات مختارة

منع الفتنة يبدأ بحظر نشر كلمة تدعو إليها حتى ولو كانت أميركية!؟: العميد د. امين محمد حطيط _

يبدو أن أميركا اختارت لبنان ليكون ميدان تعويض خسائرها في المنطقة والعالم فضلاً عن الداخل الأميركي. فمن يطّلع على فعاليّات السياسة الأميركية في مختلف عناوينها ووجوهها يجد أن ترامب يتخبّط في خيبات الأمل بدءاً من الداخل حيث الفشل في مواجهة كورونا والتهديدات التي تواجه الاتحاد والتي لم يكن آخرها حجب الرمز الاتحادي عن علم إحدى الولايات الجنوبية، مروراً بساحات القتال في الشرق الأوسط حيث فشلت أميركا في إسقاط النظام في سورية وتحوّلت الى مقولة السعي لتغيير السلوك، وعجزت أمام إيران التي برعت في توجيه الصفعات والركلات لها بدءاً من قاعدة عين الأسد الى شواطئ فنزويلا التي شهدت التحدي الإيراني الكبير بعمليّة الناقلات الخمس.

 

بيد أن الخسارة الأميركية المدوّية لترامب خاصة، كانت على الصعيد السياسي والدبلوماسي في مجلس الأمن، المجلس الذي خذلها بعد أن كانت أميركا قد حوّلته بعد سقوط الاتحاد السوفياتي منذ ثلاثة عقود الى دائرة ملحقة بالخارجية الأميركية يبصم لها على كل مشروع تريده، ونادراً ما كان يمتنع أعضاؤه الدائمون او المؤقتون عن الموافقة على مشروع تقدّمه أميركا، لكن هذا المجلس رفض اليوم وبشكل دراماتيكي سعي أميركا لتمديد العقوبات المفروضة على إيران بسبب الملف النووي، رفض الطلب الأميركي من دون ان تجد أميركا أحداً من الأعضاء يأخذ بوجهة نظرها او يتفهم مطالبها لا بل إنها وجدت الكثير منهم ممن يحمّلونها المسؤولية المباشرة عن إنتاج المخاوف التي تبديها ويربطون ذلك بقرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الدولي معها.

وبالتالي فإن أميركا بقيادة ترامب تجد نفسها اليوم أنّى توجهت تحصد خيبة وخسارة، الى حد ان المجال الوحيد الذي كان يفاخر به ترامب بأنه مصدر سعادة واغتباط له وهو المجال الاقتصادي، بات يئن تحت الضربات التي تلقاها إثر جائحة كورونا ما تسبب بإغلاق المئات من المؤسسات وتشريد الملايين من العمال وارتفاع مستوى البطالة ولم تنفع المليارات السبعمئة ونيّف التي حلبها ترامب من الأبقار الخليجية الحلوب، لم تنفع في حجب هذه الكوارث التي حلت بأميركا وأخرجت من يد ترامب ما كان يباهي به من أوراق اقتصادية.

ويشعر ترامب ان هذه الخسائر المتعددة الأنواع والأحجام والمفاعيل تحل بأميركا في وقت قاتل بالنسبة له هو الوقت الذي يخوض فيه معركة تجديد ولايته عبر انتخابات أعدّ لها ان تجري في الأسبوع الأول من تشرين الثاني / نوفمبر المقبل أي بعد 4 أشهر من الآن، اشهر أربعة يريد ترامب ان يحقق فيها أي انتصار في أي مكان ومن أي نوع حتى يخرج على الناخب الأميركي بصورة المنتصر الذي يستحق الثقة ويستحق التجديد له. ويرى ترامب ان معظم هذه الخسائر كانت بسبب صمود محور المقاومة وعجز أميركا عن ترويضه وتحقيق أهدافها الاستراتيجية في مواجهته ما يعني أن الحل برأيه لا يكون إلا عبر توجيه ضربة قوية لهذا المحور تحجب الخسائر.

بيد أن أميركا تدرك ان أي عمل عسكري تقوم به الآن ضد محور المقاومة هو مغامرة غير مضمونة النتائج لا بل تشبه الانتحار، لذلك لا يرى ترامب في الحرب العسكرية حلاً، ما جعله يجنح الى فكرة حرب أقل كلفة عليه وأكثر إيلاماً لمحور المقاومة، فكانت فكرة الحرب الاقتصادية والإرهاب الاقتصادي لكن ترامب يعرف أن هذه الحرب لا تسقط دولاً وإن تسبّبت بإيلامها، ثم أن مفاعيل هذه الحرب تتأخر بالظهور وتتطلب عادة السنوات الطويلة وترامب لا يملك ترف الوقت في ظل المهل القصيرة التي لا تتعدى الأشهر الأربعة، ولذلك هو بحاجة الى ميدان يصنع فيه نصراً سريعاً من دون كلفة يدفعها من دماء جنوده.

وفي مسار البحث عن مثل هذا الميدان الذي يصنع فيه الانتصار السريع غير المكلف  يرى ترامب بتأثير من بعض مستشاريه أن لبنان حيث توجد المقاومة التي يقودها ويمارسها حزب الله هو الميدان الأفضل والأسهل الذي يحقق الانتصار المبتغى عبر خنق هذا الحزب وتجريده من سلاحه ما يطمئن «إسرائيل» ويسجل نصراً عجز من سبقه عن تحقيقه.

اختار ترامب لبنان لصنع هذا الانتصار بسبب اعتبارات وخصائص تميّز كيانه يأتي في طليعتها نظامه الطائفي الواهن الذي يمنع قيام الدولة المتماسكة القوية ويسمح بالحركة الحرة لليد الأجنبية، مع وجود فئة من اللبنانيين من حملة الجنسية الأميركية او من غير حملتها، من سياسيين رسميين أو غير رسميين، جاهزين للعمل بإملاءات أميركا إلى حد التعبّد لها باعتبارها هي الحاكم المطلق للمعمورة من دون أن يلتفتوا الى حقيقة أميركا اليوم وضعفها، كما ان فيه أي في لبنان أيضاً جمعيات وأحزاباً ومنظمات أهلية (NGO ) تنصاع للمخابرات الأجنبية التي تديرها او تنسق معها المخابرات الأميركية.

لأجل ذلك اطلقت أميركا في سياق حربها المتجددة الوجوه على محور المقاومة بعنوان «ممارسة الضغوط القصوى للتسبب بالانهيار الشامل»، واختارت لبنان ليكون مكاناً لصنع الانتصار الحاجب للخيبات والخسائر التي تكبّدتها وجاءت مؤخراً بقانون قيصر الإجرامي تحت عنوان دعم المدنيين السوريين في وجه النظام واذ بالقانون سيفاً يسلّط على رقاب السوريين من دون استثناء وعلى رقاب غير السوريين ممن يريدون مد يد العون لهم. وكان للبنان من عقوبات أميركا في قانون قيصر وسواه حصة الأسد بسبب وضعه الجغرافي وارتباطه بسورية باعتبارها متنفسه الوحيد الذي اذا اغلق اختنق… فخطة أميركا لإحداث النصر السريع في لبنان هي بكل بساطة حصار يقود الى انهيار وتجويع وفتنة تقود الى حرب أهلية تستدرج حرباً إسرائيلية تكون الفتنة والحرب الأهلية المعبر الإلزامي لها.

ولأجل النجاح في خطتها، اوفدت أميركا مؤخراً الى لبنان موظفة بعنوان سفير، ولكنها في الحقيقة هي من طبيعة تختلف كلياً عن طبيعة السفراء وسلوكهم، انها السفيرة الأميركية الجديدة في لبنان التي تتصرف بشكل منفصل كلياً عن مهام السفير الاعتيادية ومن يتابع حركتها في لبنان ويطلع على مواقفها وتصريحاتها يرى نفسه أمام حاكم عسكري او رئيس جهاز استخبارات في بلد محتل، يمارس الحكم والسلطة من دون أن يكون له أي علاقة بالدبلوماسية او بما تفرضه قواعد القانون الدولي واتفاقية فيينا من ضوابط لتصرفات السفراء في البلد المضيف.

فالسفيرة الأميركيّة في لبنان تنفذ بكل وقاحة خطة أميركية محكمة تقوم على إحداث فتنة في لبنان عبر تأليب اللبنانيين على المقاومة وسلاحها ودفعهم الى الاقتتال الداخلي الذي يُحاصر المقاومة من باب تجويعهم ودفع البلاد الى الانهيار الاقتصادي الذي تروّج له عبر مسؤوليها وإعلامها وبعد ذلك تحميل المقاومة المسؤولية عن كل ما يحلّ ببلدهم بيد أميركية في أكبر عملية بهتان وتلفيق وتزوير.

فأميركا تخيّر اللبنانيين وبكل صلافة بين استسلام وتخلٍّ عن الحقوق عبر إخراج المقاومة التي تدافع عنهم من صفوفهم ومن حكومتهم أو الموت جوعاً الى حد التلويح أيضاً بالقضاء على فكرة وجود دولة في لبنان كما هو الحال في ليبيا التي صنعت مأساتها أيدي العرب والأطلسي.

في ظل هذا العدوان جاء القرار القضائي الذي أصدره قاضي الأمور المستعجلة في صور محمد مازح متصدياً لنشر الفتنة ومتوجهاً لوسائل الإعلام بالكفّ عن ترويج ما تلفقه السفيرة الأميركية وهو قرار يندرج في سياق الدفاع عن لبنان وأمنه عبر منع الفتنة ومنع التحريض عليها ومنع إذكاء الصراعات الداخلية؛ إنه قرار يأتي بمثابة ضوء أحمر يشعله لبنان بوجه سفيرة تخرق القواعد وتستبيح السلم الأهلي فيه، ومن غير مناقشة في مشروعية القرار وقانونيّته ومدى انطباقه على القواعد والأصول الناظمة لصلاحيات قاضي الأمور المستعجلة فلهذا الأمر مكان آخر، فإننا كنا نتمنى أن يكون القرار فرصة لإبلاغ السفيرة ان عملها الفتنوي مرفوض، لأنه ينتهك مصالح لبنان الأمنية وأن عليها ان تتوقف عنه، لا ان يجعل البعض من القرار فرصة للانقضاض على الوطنيين والتقرب ممن يريد بلبنان شراً… فالفتنة تبدأ بكلمة ومنعها يبدأ بحظر الدعوة إليها.

*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي

(البناء)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى