مقالات مختارة

أفريقيا… حيث تتقدّم‎‎‏«إسرائيل» يتراجع العرب‎‎السودان نموذج: التصويب والاصطياد: د. عدنان منصور

بعد قيام دولة الاحتلال “الإسرائيلي” في فلسطين، عام 1948، لم يغب عن استراتيجية “إسرائيل”، العمل على احتواء دول عربية، تشكل أهمية كبيرة للأمن القومي العربي، ومنها مصر وسورية والأردن والعراق والسودان.

 

اذ إن تطلّعات “إسرائيل” الى احتواء السودان، تعود الى الخمسينيات من القرن الماضي. ففي عام 1951، وقبل استقلال السودان وانفصاله عن مصر عام 1956، أرسلت تل أبيب بعثة “إسرائيلية” تجارية الى الخرطوم، مؤلفة من خمسين شخصاً، وذلك لشراء منتوجات سودانية وتصديرها الى “إسرائيل”. ما مهّد في ما بعد للتواصل مع أحزاب وتنظيمات سياسية سودانية مختلفة.

وبالفعل، جرى أول لقاء سري في لندن عام 1954، بين حزب الأمة الاسلامي، برئاسة زعيمه الصديق المهدي، ووفد ضمّ مسؤولين إسرائيليين، لبحث ما يمكن أن تقدمه “إسرائيل” لدعم استقلال السودان، ومواجهة النفوذ المصري.

السبب الذي دفع بالصديق المهدي ليمدّ الجسور مع “إسرائيل”، والتواصل معها، هو نزعته الانفصالية عن مصر، وتطلعه الى السلطة، خاصة بعد فشل حزبه في الانتخابات النيابية التي جرت عام 1953، والتي أسفرت عن انتصار كاسح للحزب الوطني الاتحادي الذي يتزعّمه إسماعيل الأزهري، الذي كان مؤيداّ لوحدة وادي النيل، والذي شغل منصب رئيس الوزراء بين عامي 1954 و1956 لحين استقلال السودان في الأول من كانون الثاني 1956 .

بعد اللقاء الأول للصديق المهدي مع الإسرائيليين، توسّعت شبكة العلاقات بين الطرفين، اذ إنه في عام 1955، جرى لقاء سري آخر في العاصمة القبرصية نيقوسيا، جمع مسؤولين إسرائيليين، مع السياسي السوداني، محمد أحمد عمر، مهندس العلاقات بين الطرفين، وأحد أبرز أعضاء الوفد الذي رأسه الصديق المهدي في اجتماع لندن، في العام السابق.

في ما بعد، توسّعت مروحة العلاقات السودانية _ الإسرائيلية، لتشمل أحزاباً سودانية، وحركات انفصالية منتشرة في جنوب السودان.

إسماعيل الأزهري، كان احد ابرز المنادين بوحدة وادي النيل. إلا أنّ الرأي العام السوداني بدأ يميل للاستقلال، وكذلك غالبية أعضاء حزب الاتحاد الوطني، الذين كانوا يشكلون الأكثرية داخل البرلمان، مما دفع بأعضاء المجلس للتصويت على استقلال السودان يوم 19 كانون الأول 1955، والذي أصبح نافذاً يوم 1 كانون الثاني عام 1956.

بعد سنتين من استقلال السودان، في عام 1958، قاد الفريق ابراهيم عبود أول انقلاب عسكري، حيث تسلّم السلطة إثر ذلك، من رئيس الوزراء آنذاك، عبدالله خليل، وبقي فيها حتى عام 1964، بعد ان أطاحت به ثورة شعبية.

إبراهيم عبود اتخذ قرارات بوقف العمل بالدستور، وحلّ البرلمان، وإلغاء الاحزاب، ثم عمل على أسلمة جنوب السودان وتعريبه، ودمج شماله بجنوبه، وحظر التبشير وطرد المبشرين، ولم يندفع للعلاقة مع “إسرائيل”، وظل على مسافة بعيدة منها، وهو الذي كان مؤيداً من قبل أكبر مجموعتين دينيتين: واحدة يرأسها عبد الرحمن المهدي زعيم حزب الأنصار، والأخرى، سر الختم خليفة، زعيم طائفة الختميّة. أدى الوضع السائد ايام إبراهيم عبود، الى تدويل قضية جنوب السودان، بضغط من الفاتيكان، وبعض الدول الغربية. في الوقت الذي بدأ فيه قادة التمرد في الجنوب، عملياتهم العسكرية، ضد السلطة المركزية في الخرطوم، متخذين من دول الجوار، منطلقاً، وقواعد تدريب، ومقار لهم، ولهجماتهم العسكرية ضد الجيش السوداني.

كان إبراهيم عبود يرمي الى دمج السودان وتوحيده ثقافياً واجتماعياً، بغية ترسيخ هوية سودانية موحدة في ما بعد، الا ان محاولاته لم تسفر عن النتيجة التي كان يتوخاها، بسبب اشتداد الصراع وحدّته في الداخل، بالإضافة الى تدخل دول الغرب في الشأن السوداني، وسياساتها الداعمة لقوى الانفصال في الجنوب.

بعد سقوط حكم إبراهيم عبود، عاد إسماعيل الازهري الى ساحة الحكم من جديد، ليتولى رئاسة مجلس السيادة، بين عامي 1964 و 1969، قبل ان يطيح به انقلاب عسكري قاده جعفر النميري عام 1969.

في عهد إسماعيل الأزهري، قويت العلاقات مع مصر، وتمّ الاتفاق معها على مواجهة العدوان الإسرائيلي عام 1967، في الوقت الذي كانت فيه “إسرائيل”، تجري اتصالات مع الحركات الانفصالية في جنوب السودان، وتقدم لها مختلف وسائل الدعم المادي والعسكري واللوجستي.

بعد حرب حزيران 1967، قالت غولدا مائير، بشكل صريح، إنّ إضعاف العراق والسودان، يتطلب إثارة النعرات الطائفية فيهما، لينال من وحدة البلدين، ومن أجل كشف العمق الاستراتيجي لدول المواجهة، وجعله مزعزعاً في اي مواجهة مقبلة مع “إسرائيل”.

شهد السودان منعطفاً جديداً، مع وصول جعفر النميري الى الحكم، اثر انقلاب عسكري قام به عام 1969، اذ أعطى جنوب السودان الحكم الذاتي، وحل الأحزاب باستثناء الحزب الشيوعي. الا انه بعد محاولة هذا الأخير القيام بانقلاب عسكري عام 1971، تمت ملاحقة أعضائه، وإعدام زعيمه عبد الخالق محجوب.

بعد مفاوضات مع الجنوبيين، وقع اتفاق اديس ابابا عام 1972، حيث نعم السودان بالسلام لمدة احد عشر عاماً، لتنفجر الحرب مجدداً بين الشمال والجنوب، بعد اتهام الجنوب للنميري بعدم احترامه لبنود الاتفاق، لجهة اللغة والدين والقومية لجنوب السودان.

شكلت فترة حكم النميري، محطة للقاءات سرية سودانية إسرائيلية، تحت ضغط أميركي، للسماح بهجرة يهود الفلاشا FALASHAS في إثيوبيا الى “إسرائيل” عبر السودان. في هذه الأثناء استطاعت “إسرائيل” ان تتغلغل في الداخل السوداني، وتتواصل بشكل مباشر مع حركات الجنوب.

بدأت موجات هجرة الفلاشا الى “إسرائيل”، اعتباراً من عام 1977، وكانت موجات قليلة العدد. الا انها نشطت بشكل كبير عام 1984، حيث تم نقل 12000 إثيوبياً من الفلاشا، عبر جسر جوي، اتخذ من الأراضي السودانية، محطة لإتمام العملية، التي تمّت بسرية مطلقة، والتي تمّ كشف النقاب عنها، بعد فترة من وصول الفلاشا الى “إسرائيل”، من قبل نشرة “نكوداه”، وهي إحدى نشرات المستوطنين اليهود في الضفة الغربية. وبعد ذلك تناقلتها وسائل الإعلام العالمية بشكل واسع. وقد عرفت هذه العملية، بعملية موسى، حيث بلغت تكلفتها مئة مليون دولار، ساهمت الولايات المتحدة بخمسة عشر ألف دولار، والباقي قامت بتغطيته جماعات يهودية أميركية.

في عهد عمر البشير الذي جاء الى السلطة بعد الإطاحة بنظام جعفر النميري عام 1989، وحتى انفصال الجنوب عن الشمال عام 2011، قامت “إسرائيل” بدور فاعل في دعم انفصال جنوب السودان، والعمل على إنهاك الدولة السودانية في الصراع المسلح، التي قبلت بعد ذلك بالانفصال ظناً منها، أنه سينهي الحرب الأهلية في السودان.

“إسرائيل” التي لعبت على الوتر الديني مع الحركات الانفصالية، لا سيما أحزاب الجنوب، ومنها الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون غارانغ، نسقت بشكل كامل معه، وهي تدفع بكل قوة باتجاه انفصال الجنوب السوداني عن شماله. مقدّمة دعماً طبياً وغذائياً، كما أرسلت أطباء الى الجنوب، ووفرت الدعم السياسيّ والعسكريّ واللوجستي للقادة الجنوبيين، والذي توسّع كثيراً وتعزز بعد إرسال طائرات عسكرية إسرائيلية، كانت تسقط معدات الاسلحة على معسكرات الجنوب.

“إسرائيل” التي ركّزت على الانفصال، كانت وراء سقوط طائرة جون غارانغ، بعدما شعرت انه يميل الى وحدة السودان.

اهتمام “إسرائيل” بتقسيم السودان، عبر عنه لاحقا، أبراهام (أفي) موشي ديختر Abraham (Avi) Moshe Dichter، عضو الكنيست عن حزب كاديما عام 2005، رئيس جهاز الشاباك بين عامي 2000 و 2005، وزير الأمن الإسرائيلي بين عامي 2006 و 2009، في محاضرة له عام 2008، جاء فيها: “انّ اهتمام إسرائيل بالسودان، هو كونه بموارده ومساحته الشاسعة، وعدد سكانه، محتمل أن يصبح قوة مضاعفة الى قوة العالم العربي. لأن موارده اذا ما استثمرت في ظل أوضاع مستقرة ستجعل منه قوة، يُحسب لها الف حساب!”.

لم تتوقف “إسرائيل” عن تدخلها في جنوب السودان، وانما نسجت علاقات مع العديد من الفصائل المسلحة في اكثر من اقليم سوداني، لا سيما في دارفور، لدفعه الى الانفصال. وهذا ما اشار اليه ديختر ايضاً في محاضرة نشرتها الصحف الإسرائيلية في تشرين الأول من عام 2008 جاء فيها: “الاستراتيجية التي نفذناها في جنوب السودان، نجحت في تغيير اتجاه السودان نحو التأزم والانقسام. وستنتهي الصراعات بتقسيمه الى كيانات عدة. انّ قدراً كبيراً تحقق في الجنوب، ولدينا فرصة لتحقيقه في دارفور”.

مؤسس حركة جنوب السودان، كشف لاحقاً عن دور “إسرائيل” في انفصال جنوب السودان، معتبرا انها وضعت الحجر الأساس لانفصاله.

الى جانب الدور الإسرائيلي، كان هناك على الساحة السودانية، غزل من قبل أكثر من فريق سوداني باتجاه “إسرائيل”. ففي مؤتمر الحوار الوطني السوداني عام 2014، أثير موضوع العلاقات مع “إسرائيل”، من قبل حزب المستقلين، من اجل التطبيع معها، تمهيداً لتحسين العلاقات الخارجية باتجاه الولايات المتحدة. هناك أصوات سودانية رسمية اخرى كانت تعلو بين الفينة والاخرى، تدعو الى التطبيع مع العدو، منها تصريح وزير الخارجية السودانية الأسبق ابراهيم غندور، قال فيه، إن بلاده لا مانع لديها لبحث إمكانية التطبيع مع “إسرائيل”. كما انّ مستشار عمر البشير، مصطفى عثمان إسماعيل، أبدى عن رغبة بلاده للتعاون مع واشنطن وتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.

لقد تهافت العديد من المسؤولين السودانيين، وقادة أحزاب سودانية، للإعلان عن رغبتهم في تطبيع العلاقات. حيث توالت اللقاءات، وكان من بينها لقاء اسطنبول عام 2017 الذي ضمّ مبعوثاً إسرائيلياً، ومسؤولين سودانيين، وفقاً لما كشفته القناة العاشرة الإسرائيلية.

دفء العلاقات السودانية _ الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، حمل رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، الى عقد اجتماع يوم 3 شباط الماضي، مع رئيس وزراء العدو نتنياهو في أوغندا، مما شكل منعطفاً، وصدمة ودهشة للسودانيين. إذ ما أدركه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، من أهمية السودان للأمن القومي العربي، عجز عن إدراكه المسؤولون السودانيون الجدد، وهم يهرولون ويزحفون على بطونهم، للتطبيع علناً مع العدو الإسرائيلي، من دون ان يدركوا خطورة وتداعيات هذا التطبيع على بلدهم وأمنهم ووحدة أرضهم، والأمن القومي العربي.

عبد الفتاح برهان، اعتبر اللقاء مع نتنياهو، إنجازاً لبلاده (!)، مدّعياً ان لـ “إسرائيل” دوراً كبيراً في إقناع الولايات المتحدة بإزالة اسم السودان عن لائحة الإرهاب، ليلاقيه نتنياهو بقوله، انّ فريقاً “إسرائيلياً” سيضع خطة لتوسيع رقعة التعاون بين البلدين!

خطوات السودان اللاحقة، سمحت للطائرات الإسرائيلية، بعبور أجوائه، ليتبع ذلك هبوط أول طائرة إسرائيلية في مطار الخرطوم.

مما لا شك فيه، ان تطبيع السودان لعلاقاته مع “إسرائيل”، سيوسع تحرك الاخيرة في القرن والوسط الأفريقي، حيث لـ “إسرائيل” اليوم علاقات متجذرة على مختلف الصعد وفي المجالات كافة، لا سيما العسكرية مع إثيوبيا واريتريا التي يوجد فيها قواعد عسكرية للعدو. ففي اريتريا يوجد أكثر من خمسمئة خبير وفني. كما لـ “إسرائيل” في تشاد قواعد عسكرية عدة، بالإضافة الى علاقات متينة متنوّعة مع أوغندا وكينيا اللتين دعمتا انفصال جنوب السودان وفصائله المسلحة، ما عزز الحضور والنفوذ السياسي والإعلامي والأمني والاقتصادي والتجاري والمالي والتكنولوجي لـ “إسرائيل” في دول الفارة الأفريقية، في الوقت الذي يتراجع فيه الحضور العربي، وبالذات الحضور المصري الذي كان في زمن عبد الناصر قوياً، فاعلاً ووهاجاً.

هل يدرك اليوم، عبد الفتاح برهان، ومجلس السيادة السوداني، والمسؤولون السودانيون، خطورة التطبيع مع العدو؟! وهل يعلم البرهان، ان التطبيع لن يوفر مستقبلاً للسودان، الأمن والرخاء والاستقرار، والأهمّ من كلّ ذلك وحدة ما تبقى من الأراضي السودانية؟!

إن العدو الإسرائيلي لن يكتفي بالتطبيع، ولا يريد علاقات سليمة، بل سيظل يركز انظاره ويواصل تآمره على تفتيت السودان، حتى لا تقوم له قائمة. وما الأحداث التي تجري في دارفور وغيرها، وتصريحات الإسرائيليين حيال مستقبل السودان، إلا لتصبّ في اتجاه التقسيم وإنشاء الكيانات الضعيفة. حيث ستظلّ اليد الإسرائيلية طويلة ووراء كل المصائب والويلات التي تشهدها أمتنا.

فمتى نتعلم من وقائع الأحداث، وما تبيّته “إسرائيل” لنا من سياسات مدمّرة لنتعظ؟!

للأسف الشديد، حيث يتقدّم العدو الإسرائيلي، في الدول الأفريقية، وعلى مستوى القارة كلها، ينحسر الوجود العربي شيئاً فشيئاً، ويتراجع دوره وينحسر، لا سيما بصورة خاصة، تراجع الدور المصري بشكل لافت ومحبط، الذي كان في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مؤثراً، قوياً ومتألقاً، في عهد الزعامة الناصرية، ومندفعاً بكلّ قواه، في مواجهة المدّ الإسرائيلي، وتضييق الخناق عليه.

(البناء)

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى