مقالات مختارة

عشر سنوات على أسطول الحرية معن بشور

 

لم يكن أسطول الحرية لكسر الحصار على غزّة الذي انطلق من الساحل التركي قبل عشر سنوات أول محاولة لكسر الحصار الظالم على قطاع غزّة، بحراً وبراً، فلقد سبقه وتلته محاولات عدّة جسّدت بمبادرات عملية مواقف شرفاء أمّتنا وأحرار العالم من هذا الحصار، بما هو أكثر من التنديد والاستنكار

 

فعشيّة التحضير للملتقى العربي الدولي من أجل العودة الذي انعقد (في قصر الأمويين) في دمشق، وفي الذكرى الستين للنكبة، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2008، وبمبادرة مشتركة من تحالف القوى الفلسطينية والمركز العربي للتواصل والتضامن، انطلقت سفينة غزّة الحرة، إلى غزّة وعلى متنها شخصيات عربية وأوروبية فكانت حافزاً لأن يتخذ الملتقى، الذي حضره آلاف الشخصيات العربية والدولية، وبينهم الرئيس الماليزي مهاتير محمد ومطران القدس في المنفى الراحل إيلاريون كبوجي وقادة سوريون وفلسطينيون ولبنانيون وعرب من كل الأقطار وأحرار العالم، قراراً بتسيير سفن من كل موانئ العرب والعالم لكسر الحصار على قطاع غزّة..

وخلال العدوان الصهيوني 2008 – 2009 على قطاع غزّة انطلقت سفينة الكرامة (2) باتجاه القطاع المحاصر، فهاجمتها سفن حربية صهيونية واعتقلت ركابها ،وبينهم شخصيات أميركية بارزة، ثم اقتادتهم إلى المياه الإقليمية اللبنانية، ورست السفينة المعتدى عليها في ميناء صور

كان مشهد السفينة شبه المدمرة، وركابها الأبطال، مؤثراً، فقررنا في «لجنة المبادرة الوطنية لكسر الحصار على غزّة» أن نردّ على العدوان الصهيوني بأن نجهّز سفينة تخرج من ميناء طرابلس (شمال لبنان) رداً على تلك السفينة التي «جاءت» بها البحرية الصهيونية إلى ميناء صور في (جنوب لبنان).

بدأ التحضير لسفينة أطلقنا عليها اسم «سفينة الأخوّة اللبنانية»، وبدأنا بجمع تبرعات عينية ومادية، على أمل أن تنطلق سفن «أخوّة» أخرى من موانئ مختلفة، وكان للمنتدى القومي العربي برئاسة الراحل الدكتور محمد المجذوب ولفرعه في طرابلس، وعلى رأسه المناضل فيصل درنيقة، وحركة التوحيد الإسلامي، وعلى رأسها الشيخ بلال شعبان، وكما لتيار الفجر في صيدا، وعلى رأسه الحاج عبد الله ترياقي، دور كبير في التحضير لهذه السفينة التي أبدى أكثر من 70 متطوعاً لبنانياً وفلسطينياً من رجال دين ومثقفين وإعلاميين سفينة استعدادهم لركوب البحر في اتجاه غزّة، ولم يكن ممكناً من ضمن إمكاناتنا القليلة أن نجهّز سفينة ركاب تحمل كل المتطوعات والمتطوعين لكسر الحصار، ولكن السلطات اللبنانية، ممثّلة بوزير الأشغال آنذاك الأستاذ غازي العريضي، أبلغتنا باستحالة نقل ركاب على سفينة شحن، وبعد مفاوضات قادها الوزير والنائب السابق الأستاذ بشارة مرهج الموجود في مرفأ طرابلس، وأبدى فيها الوزير العريضي تفهّماً، توصلنا إلى اتفاق يسمح لثمانية متطوعين بامتطاء السفينة، كان بينهم المطران إيلاريون كبوجي، ورئيس رابطة علماء فلسطين يومها الشيخ داود مصطفى، والشيخ بلال العلايلي، ومنسق الرحلة الدكتور هاني سليمان، والإعلاميون: أوغاريت دندش، سلام خضر، مازن ماجد ومحمد عليق، وخرجت السفينة فجر الثاني من شباط 2009 باتجاه لارنكا فميناء غزّة، وكان الهدف أن تتأكّد السلطات القبرصية أن لا سلاح في السفينة ولا تنقل إلا حليباً وموادّ غذائية وأدوية ولعباً لأطفال غزّة.

كان الرئيس الدكتور سليم الحص (أطال الله في عمره) رئيس اللجنة الدولية لكسر الحصار على غزّة يتابع أخبار الرحلة ساعة بساعة وجرى اتصال هاتفي بين منسق الرحلة ورئيس الجمهورية آنذاك العماد ميشال سليمان، الذي كان أيضاً يتابع مع كبار المسؤولين اللبنانيين أنباء رحلة انطلقت من المياه اللبنانية وعلى متنها لبنانيون ومقيمون في لبنان.

لدى اقتراب سفينة الأخوّة من المياه الإقليمية الفلسطينية، اعترضتها البحرية الإسرائيلية فاتجهت شرقاً نحو ميناء العريش في مصر، ثم استدارت باتجاه غزّة فاعترضتها السفن الحربية الصهيونية وصعد على متن السفينة 25 ضابطاً وجندياً واقتادوا السفينة إلى ميناء أشدود، حيث كان تحقيق مع المتطوعين شرحه بالتفصيل منسق الرحلة الدكتور هاني سليمان في كتابه «غزّة في مرمى البصر»…

إثر احتجاز سفينة الأخوة اللبنانية واعتقال ركابها الـ (18 ما بين متطوع وطاقم السفينة)، كان لي حديث أمام العديد من وسائل الإعلام قلت فيه بالحرف الواحد… «في حال الاستمرار باحتجاز ركاب السفينة، وبينهم مطران القدس إيلاريون كبوجي وعلماء ومحامون وإعلاميون فسنعتبرهم أسرى، والعدو يعرف كيف يتعامل لبنان المقاوم مع أسراه، كما أننا نعد الصهاينة بأننا إذا احتجزوا لنا اليوم سفينة فسنرسل غداً أسطولاً من السفن لكسر الحصار على قطاع غزّة»…

يومها، أصرّ الإسرائيليون في مفاوضات مع لبنان عبر قوات الطوارئ الدولية على الاحتفاظ بالمطران الراحل كبوجي في الأسر لأنّه خالف اتفاقاً دولياً بين تل أبيب والفاتيكان بعدم العودة إلى فلسطين، لكن الموقف اللبناني الذي عبّر عنه الرئيس نبيه بري كان واضحاً وحاسماً، الإفراج عن المطران قبل الآخرين، وإلا سنعتبر الأسرى جميعاً في الأسر… وما يترتّب عليه

تراجع الإسرائيليون، ولكن بعدما أصرّوا على إعادة المطران كبوجي إلى سوريا عبر الجولان باعتباره يحمل جواز سفر سورياً، لكن المطران المناضل قال لي في اتصال هاتفي فور وصوله إلى دمشق «سمعت أنكم تحضرون لرحلة ثانية إلى غزّة.. أرجو أن تحجزوا لي مكاناً فيها».

وهكذا بدأنا مع الإخوة في اللجان العربية والأوروبية التحضير لهذه الرحلة، ولا سيّما بعدما تقدمنا، الدكتور هاني وأنا في مؤتمر انعقد في اسطنبول لنصرة غزّة بعد أسابيع من رحلة سفينة الأخوّة، باقتراح تنظيم أسطول لكسر الحصار على غزّة، وعقدنا أول اجتماع للجنة التحضيرية على هامش المؤتمر حضره أيضاً إلى قائد الرحلة بولند يلدريم، المناضل الجزائري كريم رزقي، والنائب الكويتي وليد الطبطبائي، بالإضافة إلى إخوة من ممثلي مؤسسات الجاليات الفلسطينية في أوروبا وفي مقدمهم الإخوة: محمد صوالحة، زاهر البيراوي وعادل أبو راشد… وكان أيضاً للأخ ياسر قشلق وحركة فلسطين حرة جهد مشكور في إنجاح هذه المبادرة

وبدأ التحضير لتلك الرحلة منذ شباط/ فبراير 2009، إلى أيار/ مايو 2010، وكان التجاوب كبيراً من رجال دين؛ أبرزهم المطران الراحل إيلاريون كبوجي والشيخ المجاهد رائد صلاح، كما تجاوب برلمانيون أوروبيون وآسيويون ومثقفون وكتّاب ورجال أعمال بلغ عددهم حوالى 700 متضامن، بينهم عدد كبير من الإخوة الأتراك، بعضهم من حزب الفضيلة، كما كان هناك عدد من الإخوة الأكراد الذين استشهد بعضهم على سفينة مرمرة

اجتمع المتضامنون جميعاً، وشارك من لبنان بعثة لبنانية تضمّ رئيسها الدكتور هاني سليمان، والمناضل نبيل حلاق، وأبو الشهداء حسين شكر (أبو محمد)، والإعلامي عباس ناصر، رأوا في هذه الرحلة استكمالاً لرحلة سفينة الأخوة اللبنانية، كما لكل سفينة سبقت، وكان لافتاً من بين السفن الست التي تمكنت من الإقلاع من الميناء التركي السفينة الأكثر حمولة وهي سفينة الجزائر والتي كان لعضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وعضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي الحاج كريم رزقي الدور الأكبر في تحضيرها مع أهل الخير في الجزائر.

تجلّت الوحدة العربية، الإسلامية المسيحية، والتضامن الإنساني الأممي بأبهى المعاني، ولا سيّما حين نقل الإعلام صور المطران إيلاريون كبوجي يحمل إنجيله ويصلّي مع ركاب السفينة صلاة الفجر.

كان الصدام مع العدو حتمياً، كما كان يبلغني رفيقي العضو المؤسس في تجمع اللجان وعضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي الدكتور هاني سليمان الذي كان يضعني بالصورة كل ساعة، قبل أن يقطع الإسرائيليون كل وسيلة للاتصال، ذلك أن زملاءه مصرون على الوصول إلى ميناء غزّة، حيث كان التحضير لاستقبال يليق بهم، وحينها طوّق الإسرائيليون سفينة مرمرة، وهي التي كانت تحمل العدد الأكبر من المتضامنين، وصعد الجنود إلى متن السفينة في الساعة الرابعة فجر يوم 31 أيار، واصطدموا بالركاب الذين لا سلاح لديهم، واستشهد تسعة من المتطوعين الأتراك رحمهم الله، وأصيب أكثر من 26 جريحاً، بينهم المناضل هاني سليمان الذي أصيب في قدميه إصابات سبّبت له إعاقة دائمة.

لم يمر ذاك الصدام الدموي بدون ردود فعل عربية وإسلامية ودولية، وكان ممكناً أن تتحول النقمة الدولية على الكيان الصهيوني إلى سبيل لرفع الحصار عن القطاع المجاهد، لو توفرت الجديّة والضغوط الفاعلة في هذا الإطار، لو بقي سيف المحاكمة مصلتاً على مجرمي الحرب الصهاينة الذين ارتكبوا مجزرة مروعة على ظهر السفينة..

في لبنان، كان احتفال حزب الله وأمينه العام السيد حسن نصر الله مميزاً، ولا سيّما أنه دعا رئيس البعثة اللبنانية في الأسطول الدكتور هاني سليمان إلى أن يتحدث معه في المهرجان الكبير الذي أقامه الحزب في الضاحية الجنوبية بحضور حلاق وشكر وناصر أيضاً، ويومها قال سليمان: «كما كسرنا الحظر الجوي على العراق بالأمس، نكسر اليوم الحصار البحري على غزّة».

كانت تجربة أسطول الحرية، وما سبقها من رحلات بحرية وبرية لكسر الحصار على غزّة، ومنها قوافل شريان الحياة البرية، التي قادها النائب البريطاني السابق جورج غالاواي، يعاونه المناضلان نبيل حلاق (لبنان)، وسالم الصويص (الأردن)، والتي انطلقت أكبرها من اللاذقية، فدمشق، فعمان، فالعقبة، فسيناء، تعبيراً عن عظمة ما يمكن أن ينجزه تلاقي قوى وتيارات وأمم في مبادرات نوعية من هذا النوع..

كان ينتابني وأنا أتابع هذه المبادرات النضالية الرائعة، كما مسيرات التضامن الكبرى على امتداد العقد الأول من القرن الحالي من أجل العراق وفلسطين ولبنان، قلق من يوم تتفرق فيه هذه القوى وتنزلق إلى اقتتال أو احتراب أو انزلاق في خطاب تفتيتي، عنصري، طائفي مذهبي، يستهدف تلك الوحدة النضالية الرائعة التي جمعت من جمعت في تلك الأيام المجيدة

فهل تكون ذكرى أسطول الحرية لكسر الحصار على غزّة، مناسبة من أجل العمل معاً لكسر المتاريس والحواجز التي قامت على امتداد أمّتنا حين غلّب بعضنا التناقضات الثانوية على الصراع الرئيسي، وحين دخلنا إلى مساحات التلاقي بين أبناء الأمّة، وهي كثيرة، من نقاط الخلاف والانقسام لندمّرها، بدلاً من أن ندخل بؤر الاحتراب والانقسام من بوابات اللقاء والتفاعل والتكامل لنعيد بناء جسور تهدمت.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى