مقالات مختارة

ماذا قال زاهر الخطيب يوم رفض اتفاق 17 أيار عام 1983؟ رمزي عبد الخالق

 

كلما مرّت الذكرى المشؤومة لاتفاق 17 أيار يتبادر إلى الأذهان فوراً اسما زاهر الخطيب ونجاح واكيم كونهما النائبين الوحيدين من بين أعضاء مجلس النواب المنتخب عام 1972، اللذين حضرا الجلسة ورفضا الاتفاق، رغم ما قد يستتبع ذلك الرفض يومها من تهديد لحياتهما الشخصية وما قد يطال عائلتيهما من مخاطر وأذى.

 

لقد آثر الرجلان أن يسجلا موقفهما للتاريخ في وقفة عزّ لم يكن لها نظير بين السياسيّين في تلك الفترة، حيث وافق 65 نائباً على الاتفاق وامتنع 4 عن التصويت وغاب 19 نائباً، فيما تعملق زاهر ونجاح من تحت قبّة البرلمان وتماهيا مع عمالقة المقاومة الذين كانوا يسجلون البطولات في الميدان تباعاً، بدءاً من سوق الخان في حاصبيا حيث انطلقت صواريخ القوميين الاجتماعيين على مستعمرات الجليل في 21 تموز 1982، وأسقطت شعار «سلامة الجليل»، ثم العمليات البطولية في الجبل، (عاليه والرملية وغيرها…) لتأتي العمليات النوعية في بيروت لا سيما عملية «الويمبي» وبطلها القومي الشهيد خالد علوان، وهي العملية المفصلية التي جعلت ضباط العدو وجنوده يولولون راجين أبناء بيروت ألا يطلقوا النار عليهم لأنهم منسحبون، ليبدأ من «الويمبي» زمن اندحار العدو عن عاصمتنا الجميلة بيروت ثمّ عن أرضنا الطيبة في الجبل والجنوب والبقاع الغربي، وصولاً إلى الانتصار الكبير في 25 أيار 2000، والذي نحيي اليوم عيده العشرين.

كان المقاومَان زاهر الخطيب ونجاح واكيم، كمَن يستشرف الزمن الآتي، كانا على يقين بأنّ هذا الاتفاق لن يعيش، لأنه ولد مشوّهاً وغير قابل للحياة، خاصة أنه يفترض موافقة دول وأطراف لم تشارك في المفاوضات، وتحديداً الدولة السورية التي لم تكتف برفض الاتفاق بل وفّر قائدها الرئيس الراحل حافظ الأسد كلّ سبل الدّعم للمقاومة، ما أدّى إلى إسقاط الاتفاق في أقلّ من عام واحد، حيث، وبعد شهر واحد على انتفاضة 6 شباط 1984، قرّرت الحكومة اللبنانية في 5 آذار 1984 اعتبار الاتفاق «باطلاً» وإلغاء «كلّ ما يمكن أن يكون قد ترتّب عليه من آثار».

هناك بالطبع الكثير من التفاصيل التي يمكن سردها في هذا السياق، لا سيما في ما يخصّ بطولات المقاومين جميعاً، وفي الطليعة الشهداء والاستشهاديون، وحكايات المجد والبذل والعطاء والتضحية بكلّ شيء حتى بالأرواح والدماء التي تجري في العروق، وهي ملك الأمة متى طلبتها وجدتها، وقد حصل هذا بالفعل، وها نحن نحتفل اليوم بعيد التحرير، تحرير لبنان من الاحتلال الصهيوني، وعسى أن نحتفل في يوم لم يعد بعيداً أبداً بتحرير كلّ أرضنا المحتلة في شبعا وكفرشوبا والجولان وفلسطين، كلّ فلسطين

في هذا الحيّز سنعود إلى ما قاله النائب والوزير السابق زاهر الخطيب في جلسة مجلس النواب التي تمّ فيها إقرار اتفاق 17 أيار السيّئ الذكر… علماً أنّ أصحاب هذا الاتفاق في لبنان لا يزالون إلى اليوم، هم وورثتهم، عند النقطة نفسها التي توهّموا فيها أنهم أخذوا لبنان إلى حيث يريدون هم ومَن خلفهم، ولم يفطنوا بعد إلى أنّ مشروعهم بل المشروع «الإسرائيلي» كله سقط وهُزم وولّى مع رموزه إلى غير رجعة  

 

في قضايا الشعوب والأوطان، قد لا يحتاج المرء، كثيراً، لكثير من الأدلة والتحليلات ليستخرج الحقّ من الباطل، وليميّز الصحيح من الخطأ، وقد تبدو الأمور في مثل هذه القضايا المصيرية، محدودة في إطار خيارين اثنين لا ثالث لهما:

الخيار الأول: نعم، هو الالتزام بخيار المساومة على الحرية، وطرح الأمور على قاعدة التمييز والمفاضلة، بين السيّئ والأسوأ، أو بين مثالية وواقعية، أو إمكانية واستحالة، هذا خيار تُطرح فيه الأمور بهذا الشكل.

والخيار الآخر: هو خيار التمسك بالحقّ، خيار الالتزام بالقضية العادلة، بالحرية الكاملة غير منقوصة وغير مُجزّأة، لأنّ الذي يمنحك جزءاً من حريتك، هو في ذات الوقت يسلبك الجزء الآخر من هذه الحرية. والحقائق والوقائع التي أثبتها التاريخ، تؤكد أنّ الشعوب التي تدخل مع حكّامها، أو غزاتها، أو مستعمريها، بمساومة على جزء، ولو ضئيل من حريتها، فهي في ذات الوقت وعلى المدى الطويل، توقّع على وثيقة عبوديّتها.

في إطار هذين الخيارين، قد يبدو ما أقول كلاماً جميلاً، ويدخل في باب الخطب الحماسية، والتنظيرات الجميلة والمبادئ الفاضلة، كلّ ذلك قد يعطي هذا الانطباع، ولكنني من منطق علمي وحسب، أجد لهذين الخيارين في النهاية، جذراً موضوعياً علمياً على أساسه أطرح الأمور، وفي ضوئه أحدّد الموقف.

 بين المساومة على الحرية، يجد كلّ من هذين المفهومين، معياره العلمي، أساساً في الالتزام بالمنهج الفكري العلمي السياسي الوطني المبدئي، بالمعيار الذي هو معيار الالتزام بالحقيقة الاجتماعية، معيار الالتزام بالحقيقة الإنسانية، في ضوء هذا المعيار، معيار الالتزام والولاء للفكر المنهجي العلمي، وقد لا أكون بحاجة إلى الدخول في التبحُّر، بمضمون الاتفاقية والنصوص، أقول مُسبقاً، قد لا أحتاج إلى قراءة النص لأرفض الاتفاق، وهذا، ليس لأنني من هواة الرفض المُطلق! وليس لأنني، عبثاً، من أصحاب الآراء الجاهزة والأفكار المسبقة والمواقف الجاهزة. لا!

قد لا أحتاج إلى قراءة النص لأرفض الاتفاق، لأنني، علمياً، أرى أنّ أيّ اتفاق في النهاية يأتي دائماً وأبداً حصيلة نسبة القوى القائمة بين الطرفين اللذين يتفقان.

إذن، ليس من موقع الرفض المطلق، أو من قاعدة عدمية، أقول أرفض الاتفاق، إنما أقول إنه جاء حصيلة موازين قوى، هي فعلاً، التي تحدّد في كلّ نص، سواء كان لدستور، أو اتفاق، أن يكرّس النصّ بأحكامه ومضامينه، هي نسبة القوى الفاعلة في هذا المجتمع، بقواه المتصارعة، ليكون دستوراً لصالح هذه الفئة الاجتماعية أو الطبقة أو تلك، وحين يكون نصاً لاتفاق فهو مُسبقاً، سيحدّد حتماً، نسبة موازين القوى لهذه الدولة أو تلك، وبالتالي مضمون النص، سيأتي حتماً ليس حصيلة وفاق، بقدر ما هي علمياً، حصيلة موازين للقوى.

هذا، في ما يختصّ بالجذر الموضوعي لرفض الاتفاق علمياً من حيث المبدأ. أما، ودون التبحُّر بالأسباب القانونية، لا شك أنّ رفض الاتفاق أيضاً، ليس فقط من حيث المبدأ، أو من زاوية علمية، بل من زاوية قانونية ومبدئية ووطنية، يجد مثل هذا الموقف جذره العلمي.

الفكر القانوني له أسسه العلمية، وإلا ماذا يعني في الفقه الحديث وفي القوانين الدولية، أن تُعتَبَر الاتفاقات التي تُبرم في ظلّ الاحتلالات باطلة بُطلاناً مطلقاً، أو قابلة للإبطال من قبل الدولة المقهورة؟ لماذا الفكر القانوني، والذي جاء نتيجة منطق تطوُّر الشعوب، لماذا يُقرّ مثل هذا المبدأ، لو كان هذا القانون لا يجد جذره في ثمار كفاح تطوُّر البشرية والفكر العلمي الذي أنتج الفكر القانوني في مساره؟ لماذا يعتبر الاتفاق قابلاً للإبطال، عندما يُبرَم في ظلّ الاحتلال؟ لأنّ من الطبيعي، أن تكون الدولة مسلوبة الحرية، مُنتقص من إرادتها، مكرهة، ومُفسدٌ، هذا الإكراه المادي أو المعنوي أو العسكري، مكرهٌ لهذه الإرادة، وبالتالي مفسد للرضى الذي هو أحد أهمّ أسباب شروط التعاقد، سواء الشخصي أو الدولي.

بهذا المقياس القانوني، دون أن أعرض وإياكم كلّ وجهات نظر الفقهاء الدوليين الباحثين في القانون الذين أقرّوا بديهيات تأتي لتردّ على تفاسير قانونية راجت في الوسط الشعبي، أجد أنه لا بدّ أن أعرض ولو موجزاً لبعضها، خاصة تلك التي جاءت، مثلاً لتقول إنّ هذا الاتفاق كان تطويراً لقرارات الهدنة وليس إلغاء لها، أو أنّه لا يقيم صلحاً أو سلاماً مع «إسرائيل»، أو أنّه لا يحدّ من الحرية أو ينتقص من السيادة، أو أنّه لا يقرّ مبدأ تطبيع العلاقات… وإلى ما هنالك.

ليس صحيحاً ما رُوِّج، وما أقوله، ليس من عندياتي، جهابذة القانون في هذا المجلس، عندما ناقشوا، داخل اللجان، وكبار المفكرين القانونيّين الذين تقدّموا بدراسات حول هذه الاتفاقية، أكدوا أنها تشكل صلحاً مع «إسرائيل»، لأنه وفق القانون الدولي، مجرّد إنهاء حالة الحرب، لا بدّ وأن تنتهي هذه الاتفاقية بصلح. كبار المفكرين في القانون الدولي أكدوا ذلك، وهنا يمكن العودة إلى الدكتور أبو غيث، الجلبي، الدكتور المجذوب، في دراسات قانونية تتناول هذا الجانب، لا أرى أنّ مهمّتي في هذه الجلسة أن أعرض، تفصيلياً، بدراسة قانونية ما يبرّر رفض هذا الاتفاق، إنما ليس صحيحاً أنّ يُقال إنه ليس معاهدة صلح، وهو معاهدة صلح، وليس صحيحاً أن يُقال إنّ هذا الاتفاق لا يشكل اعترافاً، هذا الاتفاق يشكل اعترافاً بـ «إسرائيل»، لأنّ الاعتراف بدولة ما هو التسليم بوجودها من جانب الدولة المُعترِفة وقبولها كعضو في الجمعية الدولية. وأيضاً لا يمكن القول للحظة من نهار، أنّ هذا الاتفاق لا يُنهي حالة العداء مع «إسرائيل»، أو أنه لا يحدّ من حرية نقد السياسة الصهيونية التوسعية الاستيطانية، وكشف مخاطرها وأطماعها، في لبنان قبل سائر البلدان، والمخاطر التي تطال لبنان، فيما لو قامت تسوية شاملة، هي أكبر بكثير من أن تطال سائر البلدان العربية، لأنّ لبنان شكّل، أولاً وأخيراً، بحكم موقعه وتركيبته، التحدّي الأول للصهيونية، وهو أكثر المتضرّرين (في) حالة عقد صلح مع «إسرائيل» في هذا المجال.

الاتفاق من الزاوية القانونية

 عرضاً، أشرتُ إلى بعض البديهيات القانونية، أما من الزاويتين الوطنية والمبدئية، فهو كما يأتي: حتى في ذهن وقناعات أهل الواقعية، حتى في قناعات القابلين بالاتفاق، إنّ هذا الاتفاق لم يعد بوسع أحد من القابلين به، أن يدافع عنه من موقع مبدئي، أو من موقع وطني، بل إنّ الدفاع عنه انتقل من موقع اعتباره انتصاراً سياسياً، أو مكسباً وطنياً، أو موقفاً مبدئياً، انتقل الدفاع عن الاتفاق من هذا الموقع، بعد أن بان حجم التنازلات التي تمسّ وتنتقص من سيادته، وبعد أن باتت القناعة مُطلقة، أنّ هذا الاتفاق كان خيار أهون الشرور، وكانت رغبة، لو لم يكن هناك إكراه لكي نضطر إلى التوقيع عليه، أصبح الدفاع عن هذا الاتفاق، من موقع أنه… عملياً، براغماتياً، يحقق حلاً لا يمكن بالواقع أن نلجأ إلى حلول أخرى!

السؤال الذي تكثّف هنا، هو ذاك الذي يقول إلى أيّ مدى إذن، بصرف النظر عن المقياس العلمي والمقياس القانوني، أو المبدئي أو الوطني، يصبح من حقنا المشروع، عند إجابتنا، عند محاولة محاورتنا لأهل الواقعية، للعمليين، ونريد أن نكون عمليين، عندما نناقشهم، من حقنا المشروع أن نسأل، هل فعلاً وواقعياً، مثل هذا الاتفاق يحقق الانسحاب «الإسرائيلي»؟ إلى أيّ مدى، عملياً، مثل هذا الاتفاق يحقق الانسحاب؟ وإذا كان لا يحقق الانسحاب، ففي أيّ سياق أتى؟ ومن أجل أيّ غاية وُقِّع، أو يطالب بالإبرام عليه؟ وأكثر من ذلك، من سيكون المسؤول؟ من الذي سيتحمَّل في النهاية، المسؤولية السياسية، في حال، أنّ هذا الاتفاق لم يحقق الانسحابات؟ هل صحيح أنّ نهج التفاوض لم يكن لُيثمر أكثر مما أثمر؟

ما هو دور الموقف العربي في إنتاج مثل هذا الاتفاق؟ هل سقطت فعلاً كلّ البدائل؟ هل سقطت المقاومة الشعبية المسلحة أو سقط النهج الذي كان يقودها؟ هل، فعلاً لا يُمكن الإفادة من قرارات المجتمع الدولي ومجلس الأمن؟ هل، فعلاً، لا يشكل مثل هذا الإطار، إطاراً دبلوماسياً ملائماً للذين يريدون التحرير في ظلّ قرارات مجلس الأمن؟

أرى أنّ بحث الاتفاق، لا يمكن إلا أن يتناول هذه المسائل، إذا شئنا فعلاً أن نتحاور، إذا شئنا فعلاً أن نكون مثاليين، إذا شئنا فعلاً أن نكون واقعيين عمليين منطقيين، فنرى سويّة إلى أيّ مدى هذا الاتفاق يحقّق الغاية المرجوّة عملياً وواقعياً بتحقيق الانسحابات.

على السؤال الأول: إنني أدخل مباشرة في الإجابة على هذا السؤال، لأهميته، فهو يكثّف محور هذا الاتفاق ومبرّره.

هل فعلاً يحقّق الانسحاب؟ إنّ السببين الهامّين اللذين يقرّران ضرورة الإجابة على هذا السؤال هما التاليين:

أولاً: اتساع حجم التيار الذي يتوق إلى الخلاص بعد سنوات تسع من الإنهاك والتآكل، بعد الاجتياح الصهيوني الذي دمّر وارتكب المجازر والجرائم، هناك تيّار أصبح توّاقاً في ظلّ الذلّ والتخاذل العربي، أصبح توّاقاً للخلاص بأيّ ثمن، فكان أحد الأسباب.

السبب الثاني: والذي يجب أن لا يُغيَّب عند درس إمكانية تحقّق الانسحابات، في ضوء هذا الاتفاق، هو ضرورة فهم، وإعادة فهم الظروف التاريخية التي هُيّئت من أجل خدمة هذا الاتفاق. بمعنى آخر، منذ اللحظة الأولى التي وُقِّع فيها الاتفاق، بات الانطباع الشامل لدى الناس، وقد أقول لدى معظم الناس: نأمل أن تنسحب سورية كي نخلص من هذه الأزمة.

ومع الأسف، قدّم الإعلام، القابلين بالاتفاق أو المقتنعين بأنه يحقّق انسحاباً، قدّم صيغة الخلاص، مشروطة بالانسحاب السوري. فبات الانطباع الطبيعي المشروع عند المواطن، لم يعد البحث بالاحتلال «الإسرائيلي» والاجتياح، بل باتت المعزوفة التي تتكرّر لدى كلّ الناس: نأمل بأن ينسحب السوريون لأنه ربط مثل هذا الاتفاق كله، بهذا الشرط.

السؤال المطروح: لو سلّمنا جدلاً، علماً، إنني من حيث المبدأ أرفض الاتفاق، لو سلمنا جدلاً بالاعتبارات التي أشرت إليها، لو سلّمنا جدلاً بالمقياس العملي، أنّ سورية، إذا انسحبت يتحقّق الخلاص، فتنسحب «إسرائيل»؟

التساؤل الذي يطرح نفسه، عفواً، وبشكل بديهي، في حال لم تنسحب سورية: من الذي يتحمّل المسؤولية السياسية؟ أكثر من ذلك! دولة رئيس مجلس النواب صرّح بحذر، ومتخوِّفاً من أجل المصلحة الوطنية العليا، (صرّح) أكثر من مرة أنه إذا تمّ انسحاب «إسرائيلي» جزئي حتى الأوّلي، حتى يقول «إنّ هذا ما حذّرنا منه مراراً، فإنّ الاتفاق، يكون قد أضفى صفة الشرعية على الاحتلال «الإسرائيلي» وكان دائماً من المُنذرين الرافضين لمبدأ الانسحاب الجزئي.

في هذه الحالة نعطي الاحتلال صفة شرعية.

السؤال المطروح: من يتحمّل في حال لم تنسحب «إسرائيل» مسؤولية توفير الغطاء لشرعية الاحتلال؟ السؤال الأكبر، أو الأسئلة الكبرى، وهنا شأننا كنواب، أن نتوجّه للسلطة السياسية التي خاضت المفاوضات، نقول: ألم تكن الحكومة على علم مسبق بحدود الموقف السوري؟ رفضه…؟ مدى قبوله إلخ… ألم تكن أميركا تعلم بذلك؟ أكثر من ذلك! إذا كانت أميركا ترى أنّ الاتفاق ليس فقط لا يحقّق الانسحاب، إذا لم تنسحب سورية، فلماذا عجّل لبنان بالتوقيع على هذا الاتفاق؟ وهل (هناك) ثمة غاية أخرى، تبطنها أميركا أو «إسرائيل»، من خلال الحصول على مثل هذا الاتفاق؟ مثل هذا التساؤل يؤدّي بنا إلى التأكيد على ما يلي:

أولاً: نستخلص أنّ الاتفاق الذي عقد بين لبنان و»إسرائيل» بوصاية أميركية، مُعلقاً الانسحاب على توافر إرادة ثالثة ليست طرفاً في الاتفاق، وهي رافضة للانسحاب كما يبدو.

إنّ أميركا كانت على علم مُسبق بالموقف السوري، تبيّنته، طبعاً، من خلال مشاوراتها وتحليلاتها، ومع ذلك دفعت بلبنان، واستجاب لبنان ليوقع على مثل هذا الاتفاق.

لبنان، في النهاية، لا يستطيع فرض إرادته على سورية، «إسرائيل» لا تستطيع حمل سورية على الانسحاب طوعاً، إلا إذا كانت هناك احتمالات أخرى، أميركا تعلن أنها لا تستطيع أن تُكره سورية على الانسحاب، طالما أنّ مجرد التوقيع على الاتفاق لا يحقّق إذن، مجرد التوقيع لا يحقق الانسحابات المرجوة، وتنفيذها يبقى مُعلقاً على إرادة ثالثة ترفض الانسحاب. فلماذا، بالمنطق البراغماتي وقّع الاتفاق وما هي الغاية، في الاستعجال، من التوقيع؟

الجواب: لماذا وقع الاتفاق، في أيّ سياق، ومن أجل أية غاية؟ عندما يكون الطرف في المعادلة «إسرائيل»، حين نتكلم عن أسباب توقيع الاتفاق بالذات، والأهداف التي من أجلها وقع، الإجابة هنا، تصبح مرتبطة وغير منفصلة عن المعطيات التالية:

أولاً: ما هو الدور الذي تطمح إليه «إسرائيل» أصلاً منذ تأسيسها، والذي كان علّة وجودها؟ وما هي الأهداف المباشرة التي خاضت «إسرائيل» حربها في لبنان من أجل تحقيقها؟

صلة الاتفاق مع الشروط التاريخيةلولادة «إسرائيل»

وبالتالي، هل كان لتوقيع الاتفاق، في هذه المرحلة بالذات، صلة عضوية مباشرة مع الشروط التاريخية لولادة «إسرائيل» وأطماعها التاريخية في المنطقة التي أشار إليها الزميل الأستاذ لويس أبو شرف؟ في هذا الإطار، تدعيماً للمطامح التاريخية التي أشار إليها زميلي، أقف بكلّ احترام عند ما سبق واستكشفه المرحوم الشيخ موريس الجميّل حول أطماع «إسرائيل» ومدى ارتباط توقيع هذا الاتفاق، في هذه اللحظة، مع الشروط التاريخية لأطماع «إسرائيل».

في دراسة له، عرضتُ مضامينها في جلسة اللجان المشتركة، وفي الجلسة السرية، أرى من واجبي أمام المجلس، منعقداً في هيئته العامة، أن أذكِّر بالأصالة عن نفسي، وبالرؤية العلمية، ومن خلالها، استخرج القانون الذي يؤكّد أنّ «إسرائيل» دفعت، مع أميركا، بلبنان أن يوقع هذا الاتفاق، لا ليُنفَّذ، بل ليشكل ورقة أساسية، تكون محطة في مسار مخطّطها التآمري، وأطماعها التاريخية في المنطقة. في كرّاس له تحت عنوان «مشاريع إسرائيل وسياسة النعامة» في هذه المحاضرة منذ 23 سنة، حول المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في القدس سنة 1947، صفحة 15 من الكراس  يقول المرحوم الشيخ موريس الجميّل:

«ارتأى المؤتمر الصهيوني الرأسمالي العالمي المنعقد في القدس، أن يقرّ ضرورة تحمُّل عجز ميزانية دولة إسرائيل، إلى أن تصبح هذه البلاد مُجهَّزة، بحيث تستطيع القيام بدورها كمحطة عالمية لمفترق الطرق، ومستودع لتلقّي البضائع وتوزيعها، كما سيفرضه، حتماً، تقدّم فن النقل ووسائله في العالم.

وطلب المؤتمر الصهيوني من المتموِّلين الكبار، أن يتحمَّلوا عجز دولة إسرائيل إلى ما بعد تجهيز البلد لتأمين الدور المذكور. وعندئذٍ سيستعيضون، أيّ «المتموِّلون»، أضعاف أضعاف ما كانوا قد دفعوه لهذه الدولة، بفضل ما سيجنونه من مرور الصفقات التجارية، والتبادل التجاري والمالي على أرض إسرائيل»، ومن شاء أن يتعمّق في هذه النقطة، يقول الشيخ موريس، بإمكانه أن يراجع «هنري كوستو» في مؤلفه «رجال المال يقودون العالم». ثم ينتقل، دون أن أطيل عليكم إلى مطامع «إسرائيل» في مياه لبنان وأرضه، ويؤكد ما يجري اليوم على ساحة الجنوب من تجهيزات تقنية، طبعاً، هادفة إلى سرقة مياه الليطاني، وهذا ما تردّد على لسان أكثر من مسؤول لبناني، حذّر من مخاطر مثل هذه التجهيزات التي تقوم بها «إسرائيل» هناك.

من هذا المنطلق، يهمّني أن أؤكد أنّ هذا الكرّاس الذي وجدتُه في مكتبة المرحوم أنور الخطيب، أرى أن لو كان الشيخ موريس الجميّل لا يزال حيّاً، وكُتبت له الحياة حتى هذه اللحظة، لكان رفض هذا الاتفاق ورفضه معه أنور الخطيب، لأنهما، أدركا مسبقاً، أنّ لـ «إسرائيل» مطامع، وأنّ هذه المحطة، في هذه المرحلة بالذات، التي نعقد فيها اتفاقاً مع «إسرائيل» يأتي في سياق تحقيق أطماع آنية، في سياق تحقيق مطامع تاريخية، كانت دائماً سبب علّة «إسرائيل» في هذه المنطقة.

هذه حقائق نجد جذورها في رؤية سياسية علمية واضحة، ومن حقنا المشروع، في ضوئها، أن نؤكد أنّ هذه الوثيقة التي وُقّعت في النهاية، لا تحقق الانسحاب، بل تشكل مخرجاً سياسياً للمتفاوضين، يكفي «إسرائيل» أن تحصل على هذا الاتفاق موقّعاً «حبراً على ورق»، لأنها، بهذا الاتفاق، يمكن أن تحقق الأهداف التالية:

أولاً: هذا الاتفاق طالما لم تتحقّق الانسحابات الأخرى، أيّ بعد إبرام الاتفاق، يضفي على وجودها، أو على بقائها، وجوداً شرعياً، هذا الاتفاق يضفي على الاحتلال صفة الشرعية. أكثر من ذلك! يعطي «إسرائيل» صكّ براءة ذمة عن كلّ الجرائم والمجازر التي ارتكبتها. أكثر من ذلك، فهو يكرِّس الاعتراف بدولة «إسرائيل»، بشرعية وجودها، وبالتالي، إذا كانت هذه هي الأهداف التي دفعت أميركا و»إسرائيل» أن تستعجل لبنان بالتوقيع على هذا الاتفاق، عندها (تصبح) مقولة، اجتياح لبنان من أجل تخليصه، أو لتحريره، أو من أجل ضمان سلامة الجليل، أكذوبة، وإلا، لماذا رافق الغزو العسكري، لماذا واكبه تطبيع اقتصادي على الأرض؟ كان محور اهتمامنا في كلّ المرحلة التي سبقت، هذا التطبيع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإعلامي! حتى (الإعلام) الأميركي الصهيوني الذي كان يُروِّج لمنطق: إما احتلال دائم، أو ثمن ضروري لا بدّ من دفعه، وفي هذا السياق، كان أمام «إسرائيل» خياران أيضاً: إما، فعلاً، الهيمنة الكاملة، وتحقيق أهدافها الاستراتيجية بصلح مع لبنان و»صهينته»، وإما إعادة ترتيب المخطّط الزمني، واعتبار أنّ هذا الاتفاق، ولو كان حبراً على ورق، بحدّ ذاته، يحقق لها أهدافاً آنية، يُضفي معها على الاحتلال شرعية، وهذا ما (تبغيه) «إسرائيل» على الأرض، تستمرّ بالتطبيع، وبحكم هذا الاتفاق، باقية طالما أنّ الانسحابات لم تتحقّق.

أيها الزملاء الكرام، تكريس الاحتلال وتعزيزه في الجنوب، ممارسات الاحتلال، تجلّياته بسعد حداد، الحرس الوطني، اللجان المحليّة، التجهيزات التقنيّة، إلى ذلك وسواها

الترويج أو التمهيد للانسحاب من الجبل، تفادياً لضغط العمليات التي تشنُّها مجموعات المقاومة الوطنية، تنظيم هجوم سياسي وإعلامي ودبلوماسي يعيد لـ «إسرائيل» الاعتبار الذي فقدته عالمياً إثر غزوها للبنان.

وُقِّع ليشكل مخرجاً سياسياً لـ «إسرائيل»

يعني مثل هذا الاتفاق ليس فقط يردّ الاعتبار لـ «إسرائيل»، بل يعيد التماسك الداخلي، داخل بنية الكيان «الإسرائيلي». عملياً: «نحن خلص اتفقنا مع لبنان»، وبالتالي، كلّ التناقضات التي كانت تهزّ هذا الكيان المصطنع، هذا الاتفاق، يأتي ليحلّ لها، (لإسرائيل)، المشكلة. نعم، هذا الاتفاق لا يحقق الانسحاب، بل وُقِّع ليشكل مخرجاً سياسياً لـ «إسرائيل» وهي مستفيدة منه، حتى لو لم يُنفَّذ، وهي أصلاً وقّعته ولا تريد تنفيذه..

إنّ «إسرائيل» تبغي من هذا الاتفاق، وفق قناعاتي، أن يبقى ورقة سياسية بيدها، طالما أنها على قناعة. وأنا أرى أنّ الحكومة مسؤولة، لأنها خاضت معركة التفاوض والاتفاق، وهي التي تتحمّل المسؤولية السياسية في حال لم تتحقّق الانسحابات.

أنا من شأني، من الموقع اللبناني أقول، كنائب، يا حكومة لبنانية، كان من المفروض أن تعي وتدركي مسبقاً مدى حدود القبول، (أو) الرفض السوري وعلى هذا الأساس تخوضين معركتك. أنا مهمتي كنائب لبناني، أن أجابه السلطة السياسية التي خاضت وتحمّلت مسؤولية التفاوض. شأن سورية وسواها شأن عربي.

إذن هذا الاتفاق لا يحقق الانسحاب ووقع ليشكل منفَذاً، في النهاية، حتى على هذا المستوى، لـ «إسرائيل» ويعطيها «صك براة ذمة» وتبريراً وشرعية لوجودها أو بقائها في سياق تحقيق أهداف آنية وتاريخية استراتيجية.

هل كان يمكن لهذا النهج من التفاوض، أو للتفاوض، أن يثمر أفضل مما أثمر؟ هل كان يمكن أن يكون بالإمكان أفضل مما كان؟ مثل هذه المقولة التي تتردّد: ما هو دور الموقف العربي في نتاج مثل هذا الاتفاق؟ أنا، برأيي، لا يمكن، فعلاً، الإجابة على هذين السؤالين: مدى ما يمكن أن يثمره نهج التفاوض، أو مسؤولية الموقف العربي، الذي ساهم في إنتاج مثل هذا الاتفاق، يقتضي تثبيت حقيقتين (نذكر بهما):

1ـ موازين القوى هي في النهاية التي تحدّد حصيلة التفاوض.

2ـ إنّ تكريس مبدأ المفاوضات، على هذه القاعدة، يشكل أحد أهداف «إسرائيل». يعني:

اسمحوا لي، بكلّ صدق، أن أعيد بعض ما سبق وأكدناه في حوارنا داخل اللجان، أو ما سبق وأعلنّاه، حول مبدأ رفضنا للتفاوض كنهج. وكان مبرّر رفض مبدأ التفاوض، أساسه، أيضاً، موقف علمي مسبق، وليس (موقفاً عدمياً أو سلبياً) بالمطلق. يعني للذين يقولون بمبدأ التفاوض، أنا أقول إنّ الشعوب في تاريخها تعرّفت على المفاوضات عندما احتُلّت، أو غُزيت في عقر دارها. هذا ليس بدعة في تاريخ الشعوب. التفاوض كحقيقة، أثبتتها وظهرت في التاريخ، يعني على سبيل المثل، الشعب الفيتنامي تفاوض مع الأميركيين، التقى في باريس 1968، على طاولة المفاوضات مع أعدائه.

هنا (إزاء) مبدأ التفاوض، قد يقول (ثمة) قائل: لماذا أنت، أيها اللبناني، ترفض مبدأ التفاوض مع عدوك «الإسرائيلي»، وتقرّ مبدأ التفاوض الذي خاضه الفيتنام، مثلاً؟

مشروع مثل هذا السؤال، أو مثل هذا التفاوض جرى أيضاً في سياق الثورات الأخرى. ولكن السؤال المطروح بأيّ أفق كان يُخاض التفاوض؟

عندما التقت، مثلاً، في التاريخ، وزيرة الخارجية الفيتنامية مع فيليب حبيب، آتي بهذا المثل لأنّ المفاوض يومها عن الأمريكيين كان فيليب حبيب! قالت له: في كلّ مفاوضات يجب أن يملك أحد الطرفين ورقة، أنت تملك حقّ الانسحاب، وتمكيني من استعادة سيادتي على بلادي. وأنا أملك حقّ أن أترك لجنودك الانسحاب بسلام، وعندما أستردّ سيادة بلادي وسيادتي على وطني. يعني، عندما كانت هذه المفاوضات تتمّ على الأرض، كان هناك شعار أساسي: قاوموا الاحتلال، وبالتالي لا بأس عندها عندما تأتون إلى طاولة المفاوضات، شرط أن يكون التفاوض يُخاض تحت شعار التحرير الشامل، ودون تقديم أيّ تنازلات مبدئية على السيادة والاستقلال.

من حيث مبدأ التفاوض، لم أعطِ مثلاً حركة المقاومة الفلسطينية، ولا الأنظمة العربية التي خاضت «حروب»، لا

سبق وقال الزميل الأستاذ لويس أبو شرف ماذا أنتجت الحروب؟ لكي يخلص طبعاً بنتيجة أنّ الحروب لا تأتي (نتيجة) يعني في التاريخ هناك حروب عادلة خيضت بأفق التحرير الشامل، وهناك حروب أنتجت هزائم. من الحروب التي أنتجت هزائم طوال 35 سنة هي الحروب التي خاضتها إما الأنظمة، أو قيادة حركة المقاومة الفلسطينية، لماذا؟ لأنّ الحروب كانت تُخاض في إطار تحسين الموقع التفاوضي، مع التسليم سلفاً، والقبول مسبقاً، بالحلّ السلمي، والانخراط بمؤامرة التسوية السلمية، كحلّ للنزاع العربي ـ الصهيوني. يعني لم تخض المفاوضات ولم تخض الحروب العربية، بأفق التحرير الشامل كما خيضت لدى المقاومة الفرنسية عندما جابهت المحتلّ النازي، أو (الفيتناميين) أو (الكوبيين)، وهذا مقاس استخرجه من التاريخ، ولا يعني مطلقاً، أنني أصبحت كوبياً أو فيتنامياً أو فرنسياً عندما أقول لا، لم تسقط المقاومة الشعبية المسلحة، إنما الذي سقط هو النهج السياسي الذي قاد هذه المقاومة على أرضية القبول مسبقاً بـ «جنيف»، وعلى أرضية القبول مُسبقاً بأنّ الحرب التي نخوضها ليست حرب تحرير، بل حرب تحريك لتحسين الموقع التفاوضي، من أجل حلّ المشكلة، لا على أساس تحرير شامل، ولكن على أساس تحسين موقع تفاوضي… هذه حقائق يجب قولها، لأنه لا يجوز الانتقاص من شهادات ودماء لأبطال يستشهدون وهم يقاتلون المحتلّ. إنّ الطعن بالمقاومين الفرنسيين الذين تحدّوا «المحتلّ النازي» والمقاومين اللبنانيين الذين تصدّوا للمحتلّ الصهيوني، هؤلاء، لا يجوز أن يطعن بدمائهم أو شهادتهم، هؤلاء كان يمكن أن يحتضنوا، فيما لو تمّ التنسيق بين العمل الثوري، بين العمل المسلح، بين عمل الكفاح الشعبي المسلح، وبين الأطر الديبلوماسية تنسق كلّ واحدة في ما بينها تماماً، كما تمّ التنسيق لدى الشعوب المكافحة، ما بين العمل الدبلوماسي وما بين العمل الشعبي المسلح.

إنني من موقع الوفاء، للشهداء الذين سقطوا في الحروب التي خيضت بأفق وشعارات ليست غايتها التحرير الشامل.

إنني من موقع الوفاء لجماهير شعبنا في لبنان وفي ساحة الوطن العربي. من موقع هذا الوفاء أقول، إنّ المجابهة الشعبية المسلحة لم تسقط، ولكن الذي سقط هو النهج الذي ساد، من جهة حركة التحرُّر العربي، أو من جهة ثانية الأنظمة العربية.

من هذا الموقع أختم قائلاً: أنه، لمن يريدون التحرير في ظلّ قرارات المجتمع الدولي وقرارات مجلس الأمن، تبقى مثل هذه القرارات ومثل هذا الإطار صالحاً. أما أن تأتي «إسرائيل» لتموّل المقاومة، فهذه مقولة خاطئة باعتقادي كثيراً! لم تكن النازية لتموِّل المقاومة الفرنسية، ولم يكن الأميركيون ليموِّلوا المقاومة الفيتنامية! ولم تكن للحظة من نهار، «إسرائيل» لتموِّل الأبطال المقاومين الذين يتصدّون للاحتلال الصهيوني، وهي لن تسعى إلى تمويلهم، لأنّ الذين يقاتلون اليوم، هم الذين دفنوا في صبرا وشاتيلا كلّ التنظيرات وكلّ المساومات، وكلّ الأفكار البالية، وكلّ الايديولوجيات التي أدّت إلى توليد هذا الاتفاق، هذا النهج الذي أدّى إلى توليد هذا الاتفاق، كما سبق وولّد اتفاق «كامب دايفيد».

لا ذاك الاتفاق كان صاعقة في سماء صافية، ولا هذا الاتفاق جاء صاعقة في سماء صافية. إنه نهج سياسي ساد في الساحة مدة 30 – 35 سنة، وهو الذي ولّد هذه الاتفاقيات ولم تتمّ، والتي تنتقل بنا من انهيار إلى انهيار، ومن انتكاسة إلى انتكاسة.

إنّ الالتزام بالمقاييس الصحيحة، التي التزمت بها شعوب الأرض منذ بدء التاريخ، في مجابهتها للمحتلين، حقيقة تاريخية لا يمكن نقضها، لا يمكن رفضها، لا يمكن إدارة الظهر لتجارب الشعوب التي جابهت المحتلين. هذه حقيقة، ولكن لها شروطها: شروط عدم المهادنة والمساومة، عدم تحويل العمل السياسي إلى عمل ارتزاقي، عدم الطعن بالجماهير والإساءة إليها. وإنما كما سبق وأكدت، منذ اللحظة الأولى التي خيضت فيها المفاوضات: إننا معنيون كلنا، ولا يظننّ أحد أنّ مهمة التحرير في لبنان، هي وقف على المجلس النيابي. قلت ذلك وأكرّر، إنها مهمة تاريخية يقع عبئها على كلّ الشعب اللبناني، بجميع فئاته أن تتنظم طاقاته في إطار برنامج يوفّر مستلزمات الصمود، ويخوض معركة التحرير بأفق التحرير الشامل. من هذا المنطلق، جاءت لتؤكد صحة هذه المقولة، الإحصائيات التي نسمعها بلسان «إسرائيل»: خمسمئة قتيل «إسرائيلي» وثلاثة آلاف جريح.

ما يهزُّ الكيان الصهيوني، اليوم، أمرٌ لم تتمكن المقاومة الفلسطينية أن تحققه منذ 1965 حتى 1982. وهنا، لا طعناً بمبدأ المقاومة، ولا طعناً بالفداء فهو أشرف ما يمكن أن يكون في حياة الإنسان، وإنما طعن، نعم بالنهج الارتزاقي المرتبط الذي قاد هؤلاء المناضلين، والذي أجهض الثورة وأجهض إمكانية التحرير

اسمحوا لي إذن، باسم شعبنا وباسم المقاومين الرافضين للاحتلال، باسم الصامدين والمتصدّين، وباسم المعتقلين في «أنصار» وفي سجون وأقبية «إسرائيل».. باسم عذابات جماهير شعبنا والأمهات الثكالى، والأطفال اليتامى..

باسمهم جميعاً، أرفض هذا الاتفاق، وأطلب من المجلس الكريم أن يرفض هذا الاتفاق من أجل لبنان، من أجل شعب لبنان، ومن أجل كرامة الوطن والمصلحة الوطنية العليا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى