مقالات مختارة

حكومة أفضل ممّا كنتم… في سبيل بعض الإيجابيّة*: حيّان سليم حيدر

لأنّ المنطق يقول، ولأنّ الأصول تقول، ولأنّ الأخلاق والشفافية والحوكمة وغيرها… كلّها تحتّم أن نعطي القادم حديثاً إلى سدّة المسؤولية، الفرصة “الوطنيّة” للعمل ومن ثمّ نحكم على النتائج، كانت هذه الكلمات. وبالمنطق يمكن أن تبدأ القراءة الجديدة الموضوعية للأحداث من حيث النتائج أولاً ثمّ من حيث المنطلقات. أمّا التمنيات والنيات والانتظارات والخيبات كما وبقاء المستفيد من الذين تسبّبوا بالنتائج الكارثية أمرٌ قد يبرّر حصول الجريمة… وفهمك كفاية!

 

أمّا إذا كان ما ينعرك على الانتقاد ويحرّضك على الانتقام ولا مجال لك من التعافي من “مرضك” إلّا بالتخريب والتنقير وفي أفضل حالاتك بالتسعير (الذي قد يشمل سعرك أيضاً)… فعليك إذن، واختصاراً للوقت، بالمباشرة بالنتائج التي أوصلك السلف إليها والتي أوجبت تكليف الخلف.

في الحديث عن تجربة المئة يوم الأولى لحكومة الدكتور حسّان دياب، ونحن في اليوم الثمانين من نيلها الثقة، تعالوا نستعرض ما جاء في بياناتها وتصريحات رئيسها القليلة والمقتضبة، متجاوزين “الوعود” العامة المتكرّرة والتي باتت لازمة لكلّ برنامج حكومي، ومنها ما يأتي على ذكر الإصلاح ومكافحة الفساد واقتراح القوانين واستعادة الثقة وخطّة طوارئ وما شابه، وهي كلّها عدّة شغل ضرورية وقلّما رأت النور على الوجه المطلوب، على تعاقب الحكومات الأخيرة.

ولأنّنا بتنا في لبنان بحاجة إلى صياغة الوعي من جديد، سأذهب معكم إلى ما يمكن تسميته خطّة “أخلاقيات” رسمها رئيس الحكومة والتي لا مدّة زمنية تحدّها، فهي مسار دائم يصلح لكلّ الأوقات وفي كلّ الأوقات، ولكلّ الحكومات. وفي بادئ الأمر وفي الإيجابيات، لقد أصرّ الرئيس دياب على تقليص عدد الوزراء (اللا لزوم لهم أصلاً) إلى 20 (وكان يريد 18) ثمّ استهلّ خطابه الأول بالقول (مقتطفات منه فقط): “إنها معركة استقلال جديدة ولكن بمفهوم مختلف، قوة الإرادة، الاعتراف بأزمة غير مسبوقة تضع لبنان على مفترق طرق، فلسفة الاستدانة، أملاً كان وهماً، لأنّ النموذج الاقتصادي أثبت عجزاً، تحوّل القطاع المصرفي عن دوره الأساسي، السلوك الأخلاقي، وقفة ضمير، حكومة منحازة للناس، منطق الدولة يجب أن يسود، الدولة هي التي تحفظ حقوق الناس”، وغيرها من المبادئ العامة للعمل الحكومي.

أمّا في عمل الحكومة الفتيّة وتصرفات الوزراء، فسأذكر النقاط الإيجابية التي أراها وهي مقارنة مع الممارسات التي عانينا منها منذ عقود، ومعها أمرّر ومن خلالها ملاحظاتي وهي انتظارات ما نصبو إليه. وباختصار ومن دون أولويات أقول: نحن في حضرة رئيس حكومة هادئ، رصين، قليل الظهور الإعلامي، إلّا عند الضرورة المسؤولة وعندما يتلو علينا بيانه نشعر أنّه مقتنعٌ بما يقوله، متمكّن ممّا يطرحه، كاتبٌ للكلمات التي نسمع. وقّع الرئيس المراسيم العالقة على مختلف مرجعياتها متجاوزاً “الميثاقية” اللبنانية العجيبة وأوقف تعيينات المحاصصة، على الرغم من تضارب الأسباب. ثمّ صارح الناس بالأرقام وبخطورة الوضع ووضع خريطة طريق للمحاولة من الخروج من المأزق المالي، وإن كانت أولية، وإن كانت ناقصة، وإن افتقرت لما كان مؤمّلاً أن يكون خطّة إصلاح عامة للدولة. ثمّ باشر بمشاركة مختلف قطاعات الرأي بوضع خطط وبرامج أولية لمجموعة من مشاكل الدولة. وجّه تحذيراً بواسطة قائد قوات السلام الدولية إلى العدو في ما خصّ انتهاكاته للسيادة الوطنية ونحن بانتظار أن يعطي توجيهاته إلى الدبلوماسية اللبنانية للتعامل، وفقاً لهذا النهج في محافل الأمم المتحدة ومع السفارات. وضع إكليلاً من الورد على أضرحة شهداء قانا الأبرياء تذكيراً بجريمة الحرب وضدّ الإنسانية لدولة العدو في عقر دار القوات الدولية للسلام، مرسّخاً بذلك اعتبار الدولة لشهدائها وتذكيراً بإرهاب دولة العدو، مع انتظارنا إكمال هذه الخطوة بسائر الإجراءات المطلوبة لمنع العمالة بمحاسبة أصحابها.

ومعه، انحصر كلام الوزراء على الشاشات، قدر المستطاع، بما يقومون به فعليّاً وليس نظريّاً وأيضاً بالاستماع إلى مطالب الناس وغاب عنها التنظير وإطلاق الوعود بشكل ملحوظ، وهذا وحده يكفي إيجابية لما يشكّل من ارتياح عارم عند الناس من انكفاء وجوه “الماضي” الثرثارة حتى الثمالة عن الظهور. لقد عملت الحكومة في جلسات تكاد تكون متواصلة، والأمر كان مطلوباً منذ بداية الانهيارات منذ عقود على كلّ الصعد، وذلك للتعويض عن سبات سنين الحكومات السابقة. ثمّ أنّ الحكومة نجحت، أقلّه في مجالات الصحّة وضبط الأمن الصحّي وإعادة المغتربين العالقين في الخارج، في محنة تفشّي أخطر وباء ما زال العالم يعجز عن معالجة مفاعيله ناهيكم عن آثاره التي لم تُحصَ بعد.

وأهمّ ما فيهم كلّهم، وأعني تصرّف الوزراء، أمران إثنان: أوّلهما يكمن في أنّهم ليسوا بوارد العمل في سبيل خلق قاعدة شعبية سياسية لأنفسهم أو لتجيير نتيجة أعمالهم الرسمية إلى زعامات طوائفهم، وهذا إنجاز لا يُستهان به ويجب الحرص على تحصينه وإدامته. وثانيهما، وهو كان من المفترض أن يكون أمراً طبيعيّاً، هو أنّ الوزير، وهو سيّد نفسه بمنطوق “الطائف” المزيّف، ليس بباله أن يقترح، حتى الآن، مشروعاً ما أو يعالج موضوعاً وفي ذهنه ومخطّطه وتوجيهاته وأفعاله نيّة الاستفادة الشخصية منه، وهنا كان مكمن الفساد الكبير.

هذه حكومة تكوّنت في ظروف كارثيّة لإدارة أزمة لبنان بين ضغط خارجي تنبغي مقاومته وخلل داخلي تنبغي معالجته، وهل ترون أنّ المهمّة سهلة؟

وأنا، إذ أرمي هذه المشاهدات الأولى في ساحة النقاش، ما زلت أراقب تعامل الحكومة مع القضايا الكبرى المستعصية، علماً أنّني لم أستسغ تعاملها مع الضغوط الخارجية الكبرى التي لا يمكن تجاهلها، وهي دائماً ما تتماهى مع مصالح العدو، ولا مع النظام الدولاري العالمي الذي لا يمكن تجاوزه، مع معرفتي سلفاً أنّ الحكومة لن تتمكّن من تجاوز الامتحان على الأسس التي نأمل ولكن، كما سبق وقلت، هذه الورقة ليست إلّا مقارنة بين ما كان على مدى عقدين من الحكومات، تشكيلاً وتعطيلاً وفساداً وتخريباً وهدراً وإهمالاً ولامبالاةً، وما بات متاحاً الآن ونحن لا شك في حال أفضل… بكثير.

هذه إشارات أولية، نعم نقول أولية للمستعجلين من المغرضين الذين سكتوا 100 و200 وحتى 320 يوماً على تشكيل الحكومات السابقة وتناسوا لمدة خمس سنوات من أصل آخر عشر سنوات من تعطيل العمل الدستوري، حيث بقيت خلالها الدولة في حال تصريف الأعمال، ثمّ تغاضوا عن 13 سنة من دون موازنة عامة و27 سنة من دون قطع حساب و30 عاماً من دون تطبيق كامل للدستور وليس أخيراً بل هي المصيبة، فإنّهم تعاموا عن ماية عام من دون تطبيق المادة 95 من الدستور، كارثة الكوارث، واللائحة تطول.

ودائماً، في مجال البحث عن مساحة التعاون، وبشيء من التفاؤل غير المبرّر، أريدكم أن نتوقف عند تلك المؤشّرات الأولية لنثني على مضمونها، ونشجّع المعنيّين بها على المتابعة والتحسين، بالقدرات المحدودة جدّاً المتاحة حاليّاً بغية جعلها سياسة وطنية دائمة عابرة لآراء اللبنانيين، كلّ اللبنانيين، متجاوزة الظروف الخاصة التي لا نهاية لها، ومنذ عقود من الزمن.

لإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، فلا الشهادة الحسنة هي دائمة ولا الاستنكار هو أبدي، إذ إنّ المسألة ترتبط بفعل كلّ ممارسة على حدة وليس بالشخص. هذا المقال هو جزء من سلسلة مقالات تصدر تحت العنوانيْن «لبنانيون مع لبنان…» و»لبنانيون ضدّ لبنان…»، والمقالات تواكب العمل السياسي (بمعنى شؤون الناس) في لبنان بعد التأكيد على اعتبار الآراء والمواقف المُعبّر عنها إنما تعكس روحية قول الشاعر: «يوم يُدْرِك الجميع أنّ النقد لا يطال إلّا سلوك المسؤول في تنفيذ مهمّته، وليس نيلاً من طائفته ولا تحدّياً لها»…(**)

(*)الجزء 2 من سلسلة لبنانيون مع لبنان

(**) من مقدمة قصيدة «إلى الرئيس المنتظر»

لسليم حيدر – ديوان «لبنان» – ص. 111 – شركة

المطبوعات للنشر والتوزيع ش.م.ل. – 2016.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى