مقالات مختارة

ما بين أمريكا والصين بعد كورونا- منير شفيق

الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته أمريكا في عهدَي بيل كلينتون وجورج دبليو بوش من 1993 إلى 2009 (ستة عشر عاما تاريخية)، كان عدم مواصلة الحرب الباردة على روسيا يالتسين لتسحب منه قدراته الصاروخية والنووية، أو تضعها تحت “الحجر”، ثم عدم السماح لفلاديمير بوتين بأن يمضي بإعادة بناء الدولة والجيش، حتى أعاد روسيا إلى دولة كبرى صاروخية- نووية من الدرجة الأولى.

 

والخطأ الثاني كان التخلي عن استراتيجية “احتواء الصين”، فقد حسبوا أن مصيرها سيكون كمصير الدول الاشتراكية في شرق أوروبا، وتركوها تمضي بإصلاح أوضاعها، وإنهاض اقتصادها، والدخول في السوق العالمي ضمن شروطه. ومما أدخل الطمأنينة الأيديولوجية لدى الغرب بأن “الشيوعية” انتهت في الصين، وأن الصين في طريقها لتصبح رأسمالية. وقد وقع في فخ هذا الاستنتاج كثيرون من اليسار الذين راحوا يعتبرون، أيضا، أن الصين أصبحت رأسمالية، ولم يتنبهوا إلى إشكال بقاء الحزب الشيوعي الصيني قابضا على السلطة بيد من حديد.

أما الخطأ الاستراتيجي الثالث التابع للاستراتيجيتين المذكورتين، إن لم يكن هو الذي أثر في ارتكاب الخطأين، بل كان وراءهما، فكان خطف الاستراتيجية الأمريكية لتجعل أولويتها خدمة الكيان الصهيوني. وذلك من خلال إعادة بناء “الشرق الأوسط”، لتكريس تفوّق الكيان الصهيوني وهيمنته عليه.

وقد ترجمت هذه الاستراتيجية لتصبح أولوية في سياسات الإدارة الأمريكية، فبيل كلينتون أعطاها الجزء الأكبر من اهتمامه شخصيا، وذلك ضمن الخطوط التي وضعها بيريز لبناء “شرق أوسط جديد”، تُرجم عمليا بعقد المؤتمر الاقتصادي العالمي للشرق الأوسط الأول والثاني والثالث والرابع (الرباط، القاهرة، عمان، الدوحة). كما ترجم باتفاقية أوسلو، واتفاقية وادي عربة، ومؤتمر “المجلس الوطني” في قطاع غزة 1998، ومفاوضات كامب ديفيد2.

أما في عهد جورج دبليو بوش، فقد أُعلِن أمريكيا عن هدف بناء “شرق أوسط كبير جديد”، ودُعم بإعلان الحرب على “الإرهاب”، ثم عُزز بالحرب على أفغانستان 2001، والحرب التي شنها الجيش الصهيوني على مناطق (أ) في الضفة الغربية، في مقدمها معركة جنين 2002، وحجز ياسر عرفات في مقره في رام الله. ثم الحرب على العراق 2003 بعد حصار 12 سنة، ثم اغتيال ياسر عرفات 2005، ثم حرب 2006 على حزب الله في لبنان، وحرب 2008/2009 على قطاع غزة. وكانت أمريكا وراء كل ذلك، تأكيدا لأولويتها الاستراتيجية التي جعلت الهيمنة على الشرق الأوسط هدفها رقم 1. وبهذا تركت الصين تفلت على كل أسواق العالم ودوله، وتركت بوتين مع إطلالة القرن 21، وعلى مدى 15 عاما، يحوّل روسيا إلى دولة كبرى، راحت تهز العصا لأمريكا في أوكرانيا وفي سوريا، وعلى مستوى عالمي عام.

طبعا كان من الواضح التأثير الصهيوني الأمريكي في إعطاء الأولوية للاستراتيجية الأمريكية، لخدمة الكيان الصهيوني، في عهدي كلينتون وجورج دبليو بوش (المحافظون الجدد).

هذه الأخطاء الاستراتيجية الثلاثة، هي التي ساعدت على تشكل العالم الحالي متعدد القطبية، وهي التي أسهمت في الضعف الأمريكي الراهن في ميزان القوى العالمي، وتحوّل الصين إلى المنافس الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي الأول، والمنافس العسكري الثاني بعد روسيا. أما روسيا فوصلت بتطورها العسكري إلى إمكان تعطيل تفوّق الطيران الأمريكي، وحاملات الطائرات البحرية العملاقة، وإمكان تعطيل فعل الباتريوت والرادار أمام سرعة الصواريخ المتفوقة على سرعة الصوت عدة مرات.

وبالمناسبة، يمكن القول إن أخطاء الاستراتيجية الأمريكية، أفاد منها أفضل إفادة كل من روسيا والصين والهند على المستوى الدولي، وكل من الهند وإيران وتركيا وجنوب أفريقيا والبرازيل وكوريا الجنوبية على مستوى إقليمي، وأحيانا، أبعد من المستوى الإقليمي، ناهيك عما أفادته المقاومة في كل من لبنان وفلسطين. هذا وقد فشلت أمريكا أيضا في “إعادة بناء شرق أوسط جديد”، وفي تصفية القضية الفلسطينية.

طبعا على أمريكا أن تعض أصابعها ندما على ارتكاب تلك الأخطاء. صحيح أن باراك أوباما حاول أن ينقل الأولوية الاستراتيجية إلى مواجهة الصين، ولكن سرعان ما أربكته الحرب ضد الإرهاب. أما عندما جاء دونالد ترامب فقد راح يؤكد، بداية، استراتيجية أمريكية ضد كل من روسيا والصين. وأما في مؤتمر ميونيخ الأخير (شباط/ فبراير 2020)، فقد اعتبر وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر أن الصين هي العدو رقم 1 لأمريكا، وكرر دونالد ترامب هذه الأولوية في أكثر من تغريدة.

أمريكا والصين

كل التقديرات تؤكد أن الحجم الكلي للإنتاج في الصين راح يقترب من التفوق على حجم الإنتاج الكلي في أمريكا. وهذه حقيقة أصبحت مسلمة أمريكية، وناقوس خطر يصم آذان الاستراتيجيين الأمريكيين. وثمة تقديرات بأن الحجم الكلي للإنتاج في الصين، بعد عشرين عاما، قد يصل ضعف نظيره الأمريكي.

كشفت الصين عن امتلاكها صواريخ بالستية أسرع من الصوت، ومنذ عقد من السنين أسقطت قمرا صناعيا في الفضاء الخارجي بصاروخ أرض-فضاء خارجي. أما أسطولها البحري وإن كان لا يقارن بحاملات الطائرات، إلّا أن عدد قطعه البحرية تزيد على ما تمتلكه أمريكا ربما أضعافا. باختصار أصبحت الصين قادرة على المواجهة، ولم تعد لقمة سائغة.

أما التطور الأخطر، الذي لا يسمح لقادة أمريكا عسكريين واستراتيجيين، جمهوريين وديمقراطيين، بأن يناموا الليل، فهو التطور الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوتات، والتفوق في عدد البراءات العلمية في المنظمة العالمية لحقوق الملكية الفكرية لهذا العام (مئتا براءة).

المهم في فهم استراتيجية الصين إزاء المواجهة مع أمريكا، ستكون لأمد قادم مع كورونا وبعدها، ساعية لتجنب المواجهة والقطيعة والدخول في “حرب باردة” قدر الإمكان. وذلك على العكس من أمريكا التي ستعمد إلى فرض المواجهة مرورا بالحرب الاقتصادية ثم العقوبات، ثم التحرش والتحريض والاستفزاز. فأمريكا لا تستطيع أن تقبل المنافسة الحرة طويلة الأمد، ولا تستطيع أن ترى الصين تتحول إلى رقم 1 في الحجم الكلي للإنتاج، ولا تستطيع أن ترى “هواوي” يتقدم بجيل (5G).

من هنا ذهب ترامب مباشرة في تحدي العولمة والتجارة الحرة والمنظمة العالمية لحقوق الملكية الفكرية، فهو يريد علنا أن يعود إلى التجارة المحمية وإلى رفض المنافسة الحرة، وإلى عدم إعطاء براءة لاختراع يعتبر تطويرا نوعيا لبراءة اختراع سابق، مطالبا بتعويضات عن براءات لا تعد ولا تحصى قامت على ما سبقها، مثلا ما تم من تطوير للهاتف المحمول منذ 2007، وربما عاد إلى إديسون والكهرباء.

الصين عملت وستعمل على استيعابه حيثما أمكن في الميزان التجاري بين البلدين، أو في مطالب أخرى. فالحروب العالمية عادة تقوم بين دولتين تريدان التوسع والسيطرة، وليس بين دولة تريد التوسع والسيطرة، ودولة لا تنافسها مباشرة على ذلك. وهذه هي صعوبة الحرب الأمريكية مع الصين التي تحاول إغلاق كل أبواب اندلاع الحرب، أو تقديم أعذار لشن الحرب ضدها، وتسعى أن يكون العالم شاهدا في مصلحتها.

إن المعادلة تشبه قصة الذئب والحمل في “كليلة ودمنة” عندما قال الذئب للحمل: “لقد عكرت عليّ مائي”، فقال الحمل: “كيف أعكر ماءك وأنت فوق وأنا أسفل”. قال: “إذن أبوك هو الذي عكر عليّ مائي”، فقال له: “أبي لم يصل هذا النهر قط”، وقال الذئب: إذن جدك هو الذي عكر مائي” وانقضّ عليه. ولكن المشكلة مع أمريكا أن الصين ليست حملا، وإنما لها أنياب نووية وعضلات مفتولة، وماضية بهدوء إلى رأس النهر، من دون استخدام سياسة القوة.

باختصار، لا تستطيع أمريكا أن تترك الصين تتقدم وتتطور اقتصاديا وعلميا وذكاء اصطناعيا، وبالطبع عسكريا أولا. ومن ثم ليس لأمريكا إلّا منعها من هذا التطور، ومحاولة عرقلته، وذلك باستخدام كل ما تملك من وسائل تحت سقف النووي، فضلا عن تأليب العالم ضدها.

أما الصين، فإلى أي مدى تستطيع استيعاب ضربات تحت الزنار، وتقديم تنازلات مقابل كسب الزمن، وتهدئة الثور الهائج؟ فهي غير متعجلة لتصبح الرقم 1 وتريد أن يأتيها بسلاسة. ولعل أصعب ما ستواجهه هو “اقتراب” أمريكا من حدودها، ولا سيما بحر الصين وهونغ كونغ وتايوان.

وبعد، فإذا كانت أمريكا والصين لم تتعاونا أمام الخطر المشترك (كورونا)، وراحتا تستغلانه إعلاميا وسياسيا بعضهما ضد بعض، فكيف ما بعد كورونا؟

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى