مقالات مختارة

أي عالم بعد كورون؟- منير شفيق

الحرب العالمية التي شنها كورونا (كوفيد- 19) على كل دول العالم، فرضت على أكثر من ثلاثة مليارات من البشر أن يعتزلوا في بيوتهم، وأدت إلى إغلاق المدن، ووقف المواصلات العامة، وتعطيل الحياة الاقتصادية، وتأثرت علاقات الدول بعضها مع بعض، وغير ذلك كثير مما يمكن أن يُقال حول ما أحدثته وتحدثه هذه الحرب، الأمر الذي فرض التساؤل: إذا كان ثمة شبه إجماع على أن عالم ما بعد كورونا لن يكون مثل عالم ما بعدها، فما هو التغيير الذي يمكن توقعه، بداية، بالنسبة إلى الوضع الدولي؟

 

حكومات الدول الكبرى، ولا سيما أمريكا التي تعدّ نفسها الدولة الكبرى رقم 1، وجدت نفسها عاجزة، حتى في بلادها نفسها عن مواجهة هذا الوباء كما يجب، ومقصرة في عنايتها بالصحة العامة، ومفتقرة إلى المتطلبات اللازمة، وغير قادرة على تأمينها بالسرعة المطلوبة، علما أن زيارة الوباء للعالم أمر متوقع، ولا يجوز عدم تأمين الحدود الدنيا استعدادا له، كما تفعل في توقع الحرب العسكرية فتجعل موازنة وزارة الدفاع أضعاف ما تخصصه للمجالات الأخرى.

ولهذا لا عجب حين تكتب “الواشنطن بوست” الأمريكية: “كورونا عرّت ترامب”. ويكتب معلقون كثر أن “الصين تفوقت على أمريكا في مواجهة كورونا”. ولا عجب أن تنتشر “قرصنة” دولية في الحصول على الكمامات، وأجهزة التنفس الصناعي، وثياب الوقاية، ووسائط التعقيم. وأضف إلى ذاك تصدع علاقات في ما بين دول حليفة، وتصاعد الاتهامات بين أمريكا والصين، بين أمريكا ومنظمة الصحة العالمية، بين أمريكا وكل من ألمانيا وفرنسا.

هذه المؤشرات تعزز السؤال: ما هو التغيير الذي يمكن توقعه بالنسبة إلى الوضع الدولي ما بعد الحرب العالمية الكورونية على العالم؟ طبعا هذا السؤال يمتد إلى ثلاثة أسئلة أخرى مؤجلة، هي: ما هو التغيير المتوقع بالنسبة إلى وضع كل إقليم من أقاليم العالم، ولا سيما الإقليم العربي- الإيراني- التركي؟ وما هو التغيير المتوقع في كل دولة على حدة؟ وما هو التغيير المتوقع على مستوى الفرد والعلاقات الأسرية والاجتماعية وعيا وأيديولوجية ومسلكا؟

فبالنسبة إلى السؤال الأول المتعلق بالتغيير الذي ينتظر الوضع الدولي، وهو موضوعنا هنا، يحتاج في الإجابة عنه أن يبنى على لحاظ ثلاثة أسس تاريخية، تتعلق بسنن التغيير في الوضع الدولي.

أولا: الذين تبنوا نظرية في التاريخ تقول إن الأوبئة كانت وراء قيام وسقوط إمبراطوريات وحضارات، ويستدلون على أن الوباء الأنطوني (165-190م) أسقط الإمبراطورية الرومانية، أو طاعون جستنيان (541-543م) زعزع أركان الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية. وهذه نظرية غير صحيحة، لأن الأولى سقطت على يد القبائل الجرمانية عام 476م، أي بعد حوالي ثلاثة قرون، والفارسية بعد مئة عام تقريبا، وانتهت البيزنطية بعد 900 عام تقريبا.

فالتغيير لم يكن فوريا وله أسباب أخرى أهم، ومن ثم يجب أن يفرق بين دور الوباء في الإضعاف ودوره في التغيير. وكذلك حين يُعزى للوباء الأنطوني أنه أدى إلى إضعاف الإيمان بتعدد الآلهة، ومهد للمسيحية (315-333م) فالتغيير حدث بعد 150 عاما. أو عندما يعتبر أن الطاعون الأسود الذي ضرب أوروبا في القرن 14، أدى إلى إفلاس الملوك وانهيار الإقطاع والقنانة، وأدى إلى النهضة الأوروبية، فأنت تتحدث هنا عن مئة عام تقريبا، فيما الذي أدى إلى فتح باب التغيير (النهضة) كان اكتشافات الأمريكيتين، وطريق رأس الرجاء الصالح أواخر القرن الخامس عشر، ثم احتاج التغيير إلى الثورة البرجوازية، والنهضة بعد مئة أو مئتي سنة أخرى.

فعندما يقول هنري كيسنجر، “إن كورونا سيغيّر النظام العالمي للأبد”، يتقمص تلك النظرية، ولا يلحظ الفارق بين الإضعاف أو هز الهيبة، وبين حدوث التغيير.

ثانيا: فعل الأوبئة في الإمبراطوريات والحضارات والدول مثل فعل كورونا الحالي بالإنسان الفرد (أكان فتيا وشابا أم كهلا وشيخا). فالإمبراطورية إذا كانت في مرحلة نهوضها تتجاوز الوباء بالرغم من الخسائر التي يسببها، وقد يؤخرها بعض الوقت، لكنه لا يزرع أسباب سقوطها، أو يمنع نهوضها.

مثلا عندما ضرب طاعون عمواس في جيوش الفتح الإسلامي عام 18هـ، الموافق 640م، وقد ضرب في بلاد الشام حتى البصرة، تم تجاوزه، بالرغم من أنه قتل ما بين 25 و30 ألفا من الجند وخيرة القادة (مثلا أبو عبيدة عامر بن الجراح ومعاذ بن جبل وعدد من الصحابة رضي الله عنهم). وكذلك القوى الناهضة في الغرب تجاوزت وباء 1918-1920 واستمرت في النهوض.

أما الإمبراطورية عندما تصبح في كهولتها أو شيخوختها، ففعل الأوبئة فيها أشد تأثيرا في إضعافها أو التمهيد لأفولها، من دون أن يكون السبب الرئيسي للأفول.

ولهذا، ونحن في البحث عن تغيير الوضع الدولي بسبب كورونا الراهن، ينبغي لنا أن نفرق في تأثيره بالنسبة إلى من هو في حالة صعود، ومن هو في حالة تراجع في ما بين الدول الكبرى. كما نفرق بين التغيير المباشر بعد كورونا في السنين العشر الأولى والثانية، ثم مدى تأثيره في التغيير في المدى البعيد، بالرغم مما سيتوفر من أسباب أخرى، أشد تأثيرا منه في حدوث التغيير الأكبر والنوعي.

ثالثا: طبيعة الدول القائمة وأنظمتها مثل طبيعة الطبقات والمكوّنات الاجتماعية، ثابتة لا تتغير نوعيا بسبب الأوبئة، أو بسبب كورونا هذا. فالوباء لا يقضي على الدولة والنظام القائم بالإسقاط، لأن الإسقاط يحتاج إلى من يحل مكانه. والوباء في النهاية هو الذي يُقضى عليه، أو يدخل في مرحلة كمون طويلة الأمد. لذلك؛ فإن طبيعة الدول الكبرى أو إسقاطها لا يكون بفعل وباء مثل كورونا، وإنما فعله سيقتصر على السمعة والهيبة إضعافا وخسائر في حالة الهرم والشيخوخة، أو يتم تجاوزه، ومن ثم الاستمرار في النهوض (ربما بعد نكسة مؤقتة).

فالرأسمالية في الغرب مرت بأوبئة، وبحالات من الضعف والقوة، من دون أن تتغير طبيعتها الربحية والنهابة والاحتكارية والهيمنية، الذي يتغير مع تغيّر موازين القوى هو تغيير كمي في مدى الجشع والهيمنية.

والسمات العامة للوضع الدولي وموازين قواه وطبيعة كل دولة كبرى فيه، ستبقى هي هي قبل كورونا وبعده. فكورونا لا يستطيع أن يطيح بأمريكا، ولا يستطيع أن “يعلو” بالصين لتصبح الدولة الكبرى رقم 1. وكذلك بالنسبة إلى روسيا وأوروبا واليابان والهند، وليس هو الذي يقرر التغيير الذي يحدث بعده.

تأثير كورونا على أمريكا وأوروبا أنه هزّ سمعة النظام الرأسمالي الغربي وهيبته، إذ بدا هشّا أمام هجمة كورونا، فيما بدت الصين ونظامها أقدر وأفعل في مواجهة الوباء كوفيد- 19. وبدت أوروبا ضعيفة أمامه وتكاد “تتصدع”، فيما حافظت روسيا على مكانتها وهيبتها. ولكن موازين القوى العسكرية فيما بين الدول الكبرى لم تتغير قبل كورونا وبعده مباشرة. وهذه هي الحاسمة في إحداث التغيير النوعي، أو الكمي، أما الهيبة والقدرة فلهما أهميتهما في حسابات موازين القوى العامة، ولكنهما لا تحدثان التغيير في الموقع الذي تحتله الدولة المعنية في ميزان القوى.

الفرق بين الحرب العسكرية بين الدول والحرب ضد كورونا؛ أن الأولى تنتهي بمنتصر يفرض سيطرته ومهزوم يخرج من المعادلة ولو مؤقتا. أما الثانية عندما يُهزم كورونا، فالكل يخرج منتصرا، أما في أثنائها، فالكل سيعاني من خسائر وأزمات بتفاوت، عدا البعد المتعلق بالهيبة والقدرة، حيث امتازت الصين حتى الآن بهما. هذا يعني أن الوضع العالمي بعد أن تضع الحرب الكورونية العالمية أوزارها، سيتشكل من الدول الكبرى نفسها، ويكون متعدد القطبية، مع متغيرات كمية هنا وهناك، سياسية واقتصادية ومعنوية، الأمر الذي سيحتاج إلى تغيير، ولكن دونه خرط القتاد (صراعات حامية الوطيس).

فالوضع العالمي بعد كورونا سيبقى متعدد الأقطاب، وبالأقطاب نفسها، وبفوضى، ولا نظام، ولكن بمتغيرات كمية في معادلة موازين القوى العامة، والأهم من دون اعتراف بمنتصر أو مهزوم، ومن دون استجابة للتغيير الذي أصبح على الأجندة. فما من دولة تتنازل بخاطرها عن مربعها، نزولا إلى مربع أدنى، فالنزول والصعود لا يتمان إلّا مدافعة وغلابا. وفي الماضي قبل “النووي” كانت الحرب حتمية، وهي القول الفصل.

على أن انقشاع ظلمة كورونا سيكشف ما غطته من أزمة اقتصادية عالمية تتسم بالركود والتضخم في آن واحد، وأزمة حرب أمريكية اقتصادية- سياسية على الصين، وأزمة أمريكية- روسية وصينية اتسمت بسباق تسلح محموم، وأزمة أمريكية- إيرانية تنذر بحرب إقليمية في أية لحظة، وأزمة أمريكية مع كل من ألمانيا وفرنسا وجنوبي كوريا واليابان. فجميع هذه الأزمات وراءها أمريكا، وهي في حالة من الضعف والتراجع، وقد حان أوان نزولها عن “عرشها” الذي تربعت عليه بعد الحرب العالمية الثانية، واستغلته لتفرض الدولار سيّدا على العلاقات التجارية والمالية العالمية، مما جعلها تطبع الدولارات بلا غطاء ولا حساب. وجاء دونالد ترامب ليعلن “أمريكا أولا”، وراح يبتز أغلب دول العالم، وينزل العقوبات ضاربا عرض الحائط بالقانون الدولي والهيئات الدولية، وبمصالح كل الدول تقريبا.

كل الدول الكبرى، وبتفاوت، طبعا، تريد رفع هذه السيطرة الغاشمة السياسية- الدولارية- المالية التي تهدد بالعقوبات والحصار ودفع الأتاوات والخوات (المعاصرة)، وتشيع الفوضى العالمية وتهدد الإنسانية بالكوارث.

والمشكل الذي لا تتنبه له الإدارة الأمريكية؛ أنها تفعل كل ذلك في الوقت الذي لم يعد وضعها في ميزان القوى العسكري والاقتصادي والسياسي والتقني، يسمح لها باستمرار ما كان بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة؛ فالأرض راحت تميد تحتها قبل هجمة كورونا وفي أثنائها، فكيف ما بعد كورونا؟

كل الدلائل تشير، منذ بضع سنين، إلى أن الصين تتقدم بسرعة لتتفوق على أمريكا بالإنتاج والذكاء الاصطناعي، وروسيا تتقدم عليها بصناعة الصواريخ البالستية السباقة للصوت أضعافا، والدول الكبرى تضغط عليها لتتنازل عن عرشها الذي لم تعد لائقة به، ولم يعد لائقا بها. ولكن أنّى لها أن تتخلى عما أخذته بالقوة والقدرة، وما يشبه الحرب في الأقل. فأن يختل ميزان القوى في غير مصلحة أمريكا شيء، وأن تعترف بهذا الاختلال شيء آخر، وأن تتقدم الصين اقتصاديا وصناعيا وتكنولوجيا وذكاء اصطناعيا شيء، وأن تسمح أمريكا لها بأن تمضي بهذا التقدم شيء آخر.

صحيح أن الوضع الدولي بعد كورونا لن يبقى كما كان قبلها أو في أثنائها، ولكنه لا يتغير إلّا عبر صراعات ونزاعات وأزمات، قد تجعلنا نترحم على أيام كورونا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى