مقالات مختارة

ألا فاسقني قهرًا، وقلْ لي: هو القهرُ حيّان سليم حيدر

 

                                                                      (من مال الناس – الفصل1): أين الأهداف ؟

 

لمناسبة صدور الموازنة العامة للدولة، خاطب “الذين يعرفون أنّكم تكذبون عليهم”، خاطبوا “الذين يكذبون عليهم وهم يعلمون أنّهم يعرفون أنّهم يكذبون عليهم” –  وفقًا لشهادة “شاهد من أهله” خلال مناقشته للموازنة العامة من على منبر المجلس، سعادة نائب الأمّة جمعاء (1) السليم السيرة –  فصرخوا :

ألا فاسقِني قهرًا، وقل لي: هوَ القهرُ          ولا تسقني سرًّا وقد أمكن الجهرُ

                 فما  العَيْشُ  إلّا موازنة بعد موازنة،          فإن طال الكذب عندها كَبُرَ العُهْرُ (2).

وكانت الحكومة واللجان النيابية والهيئة العامة البرلمانية قد أنهت جلجلة إخراجها بعد التمحيص والمناقشة والإعتراض والتعطيل والحَرَد والتهديد والمساومة والتسوية فالتصويت ومن ثمّ الإقرار فالصدور بعد “مُلْحَق خاص” من المخاض.

هذا والحقّ يُقال أن البعض (نوابًا، وزراء ومن معهم) قد عملوا فعلًا بجهد مضاعف خلال هذه الفترة لإنجاز الموازنة بالمقارنة مع العقود والدورات البرلمانية التي قضت (على الشعب).  بعد الملاحظة أن هذا لا يبرّىء أحدًا لأن البعض منهم، وهم الأحرص، قد سهر الليالي في سبيل “إبتداع” مسارب هدر ونفع خاص “خلّاقة” بحيث بات حجم الظلم بالأرقام يفوق أضعاف مضاعفة حجم العدل، إن ومتى تحقّق.

نعود الى بدايات الفكرة والغاية فالحاجة الى موازنة والفلسفة من ورائها، وباختصار قدر الإمكان من خلال عناوين بسيطة.  الموازنة أداة الحكومة الأساسية لإعادة توزيع الثروة الوطنية بشكل عادل (على الناس والمناطق والقطاعات والتقديمات و …) ومن العناوين أيضًا تخفيض العجز والدين العام وسائر المبرّرات الإقتصادية والمالية ولكن، الى جانب هذا كلّه، وهو ليس بقليل، على الموازنة أن ترمي الى:

أ- التخفيف عن المواطن “المعَتّر” من إحساسه بأنّه يُستَغَلْ ويُسْرَقْ ويُسْتَغْبى، و..

ب- أن يتحسّس المسؤول بما يشعر به المحروم المقهور المظلوم بارتضائه العيش بالحدّ الأدنى في ذلّ (والبعض يظنّه ظلّ) عدم مساواة إقتصادي  وإجتماعي طالما يكبر.  (في الإتّحاد الأوروبي يبلغ السقف الأعلى للرواتب والمخصّصات والتعويضات 9 أضعاف الحدّ الأدنى للأجور بينما يصل في لبنان الى 35 ضعفًا، والله أعلم.. والخير لقدّام !). وطالما ذكرنا هكذا أرقام، يجدر التذكير أنّ حكومة لبنان تضم 30 وزيرًا مقابل 9 لحكومة ألمانيا.                                                                                                                       وللمساهمة في عُجالة بما يعرف بالنقد البنّاء، يمكن إختصار بعض الإجراءات على نحو:

1- أن يطبّق المسؤول (رئيس، وزير، نائب، موظف) القانون على نفسه وعلى عائلته وزملائه أولًا،                                                                                                                        2- أن يلغي، قدر الإمكان، وفي أسوأ الأحوال أن يُقلّص الى الحدّ الأدنى الفوارق في العطاءات، من كلّ    نوع وصنف وحجم، فيما بينه وبين عامة الناس،                                                                              3- أن يساهم في إرساء العدالة ومنع الظلم بالمباشرة بنفسه،                                                            4- أن يسهّل على المواطن الوصول الى حاجاته والى المعلومات، كلّ المعلومات، فعلًا لا قولًا، تطبيقًا لمفهوم الشفافية، أحد أركان الحكم الرشيد،                                                                                                       5- أن يجعل من المعاملات الرسمية والإجراءات وما إليها معاملات “صديقة  (friendly) “ .              إننا نسوق هذه الإقتراحات منعًا من الإمعان في إشعار الناس بالمزيد من الحرمان وتجنّبًا لثورة إجتماعية قد لا تنتظر، وقد قيل سابقًا أن الشعور بالحرمان هو أشدّ ظلمًا على الناس من الحرمان نفسه (4).

ج- ومن باب المساهمة في المساواة نقترح إلغاء كلّ وجميع الإستثناءات والتمايزات والمخالفات وما شابه تطبيقًا للعدالة إلإجتماعية وأيضًا تخفيضًا للعجز.

د- أن يَعيَ الجميع، وبخاصة المسؤول، معنى الولاية العامة من حيث مضمونها الإجتماعي أولًا.  وفي سياق التأكيد على ذلك نورد ما نصّت عليه المادة 111 في آخرها (الفصل السابع – الشؤون المالية) من الدستور الأردني (لكي لا نتشبّه بعالم بعيد عنّا): ” لا تُفرض ضريبة أو رسم إلّا …  وعلى الحكومة أن تأخذ في فرض الضرائب بمبدأ التكليف التصاعدي مع تحقيق المساواة والعدالة الإجتماعية وأن لا تتجاوز مقدرة المكلّفين على الأداء وحاجة الدولة الى المال.”

ه- وبالإضافة الى كلّ ما سبق، لا يجوز فرض ضرائب ورسوم وما شابه وحصر “منافعها” في جهة معينة مثال عائدات الرسم على العقود أو مخالفات السير وغيرها إنطلاقًا من مبدأ دستوري عالمي أنّه لا يجوز الجباية من العام وتخصيصه في صندوق طرف معين.

و- وليس أخيرًا، فلا جدوى من فرض ضرائب ورسوم لأيّ سبب كان، وحتى من تنفيذ مشاريع وصفقات الخ…، منعًا لأن تصبح أبوابًا للرشوة والفساد والإثراء غير المشروع وأداة إبتزاز، قبل تأمين وسائل ناجعة للتنفيذ والإشراف والرقابة والتدقيق والتقييم والمساءلة والمحاسبة وكلّ أدوات منع الرشوة والفساد والهدر وسائر “عدّة الشغل” في سبيل تطبيق القانون.  ويحذّر كبار إقتصاديّي العالم من أن نظام الراسمالية الليبرالية (المتوحّشة سابقًا) يتأسّس ويربو على “حماية كلّ ما سبق وأمكن سرقته.

نسوق هذه المقترحات الأولية المفيدة إسهامًا منا في إيجاد حلول بسيطة لمشاكل مزمنة وردًّا على القائلين أنه لا يصدر عنا إلّا الإنتقاد والشكوى ونحن ندرك أنّ الحال مستعصية مع هكذا حكام الى درجة 90% والباقي يتوزع بين من “قد يقرأ ويستدرك” بواقع 2% ويعتبر 8% منهم أنّهم غير معنيّين.  إذن، نحن نخاطب ال 2% منهم.

وقد وصف شاعر السؤال حال الناس بقوله:

                                   من تُرَى قد صنَّف الحظَّ قصورًا وقبورا

وهناء  مستطابًا  وعذابا  مستطيرا  (3) .

وبعد … لأنّ مناقشة الموازنات تطول، وللدلالة على فداحة (وفضاحة) ما جرى ويجري، سأختم مداخلتي في هذا الجزء الأول بما أوردته عناوين الصحف خلال حقبة الإخراج (ولِتُعْتَبَرْ إخبارًا مقدّمًا أمام المعنيّين بالأمر).  وممّا قرأنا فيها:                                                                                                                          – 85% من مواد الموازنة… لا علاقة لها بالموازنة،

لجنة المال تشرّع عدم المساواة بين المواطنين،

تعديل قوانين نافذة خلافًا لقانون المحاسبة العمومية،                                                            الموازنة من 99 مادة، أول 14 مادة هي مواد موازنة والباقي “فرسان” الموازنة على قول رئيس لجنة المال والموازنة النيابية وهي تعديلات لقوانين لا صلة للموازنة بها،

– يعتبر تعدّي على الدستور،

– لاختصار الوقت… ولكن لإمرارها من دون نقاش،

مخالفة دستورية: موازنة من دون قطع حساب،

لإبراء ذمّة مالية لكلّ الحكومات المتعاقبة، عدم القدرة على إقرار أي أرقام، لا حسابات مالية مدقّقة في لبنان، ولن يكون هناك، ولا قدرة لديوان المحاسبة على التصديق عليها،

تمييز بين المكلّفين بالضريبة، التسوية الضريبية تمسّ بمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمييز أو تفضيل (من قرار المجلس الدستوري في إبطال المادة 26 من موازنة 2018).

 

في هذه الأثناء، فيما يطالب رئيس البلاد المواطنين بالتضحية إسهامًا من الجميع في مواجهة الأزمة الإقتصادية المستفحلة، يُبرِم وزيرٌ صفقة شراء مبنى للدولة، ليس من الحاجات الملحّة، بمبلغ 75 مليون دولار من مال الناس في أغلى منطقة من لبنان بأغلى الأثمان وبتشكيك، من قبل وزراء ونواب وإداريّين وحقوقيّين، بقانونية وشرعية الصفقة.  ثمّ تضيع الحقيقة (من هنا أهمية حقّ الوصول الى المعلومات التي أكدنا فيما سبق على أولويتها) بين تضليل المعلومات وتراشق الإتهامات تأكيدًا  لمقولة “عندما تهتم بمن هو على صواب ومن هو على خطأ تنسى ما هو الصواب وما هو الخطأ”.

 

وهل يستوي الذين ي……. والذين لا  ي……..؟؟  ومن هم الفائزون … بالمغانم ؟ !

مع هذه الحقائق يمكن لنا إنهاء هذا الفصل بخاتمة قصيدة أبي نوّاس:

 فبِتُّنا يرانا الله شَرَّ عِصابةٍ،         نُجَرّرُ أذْيالَ الفُسوقِ ولا فَخْرُ(2)

 

                                                               وبانتظار الفصل الثاني قريبًا.

 

بيروت، في 4 تموز 2019                                                           حيّان سليم حيدر                                                     

                                                                                    نحو مواطنية ميؤوس منها؟

____________________________________________________________

(1)     المادة 27 من الدستور اللبناني

(2)     بالإذن من أبي نوّاس بعد التصرّف وكسر الأوزان

(3)     من قصيدة “الثورة السوداء”، سليم حيدر – ديوان “ألحان”- الصفحة 84 – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر

(4)     من أقوال الإمام السيد موسى الصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى