مقالات مختارة

أي سرٍّ في قلم وليد عوض؟!/ ابراهيم عوض

هو انسيابي لمّاح. والأهم سلس يسرد الواقعة أو الحدث بأسلوب قصصي مشوّق يُغنيه بروايات من التاريخ أو تجارب عاشها يستحضر تقاصيلها، وإن مرّ عليها الزمن، مستعيناً بذاكرة لا تنضب تميز بها حتى أضحى مرجعاً يلجأ اليه كثيرون ليتزودوا بمخزونه.

لقد أنعم الله سبحانه وتعالى عليّ، وأنا العاشق للصحافة منذ صغري، أن تتلمذت على يد ابن عمي الأستاذ وليد عوض، منذ أن دخلت مدرسة الصحافي الراحل سليم اللوزي صاحب مجلة “الحوادث” التي ذاع صيتها في الستينيات والسبعينيات بصورة خاصة.

كان ذلك في العام 1968. يوم جاءني المحامي الالمعي الأستاذ باسم الجسر، حامل لقب “منظر الشهابية”، حينذاك الى مكتب صاحب “الحوادث”، ورئيس تحريرها، الكائن في كورنيش المزرعة، والذي أتاح لي فرصة تعلم المهنة قائلاً لي بأنني محظوظ “لأن ابن عمك وليد سينضم الينا مديراً للتحرير ولا بد أن يُشرف عليك ويأخذ بيدك”.

فرحت لهذا الخبر. ورحت أعد الأيام التي سأرى فيها ابن العم يستوي على مقعده خلف المكتب في الطابق الثالث. كما أن الزملاء أخذوا يحسدونني كوني سأصبح “مدعوماً”. وثمة من تعمد التودد لي علّه يحظى أيضاً ببركة مدير التحرير القادم الينا.

ما حصل كان عكس التوقعات. فها هو الأستاذ وليد يقسو عليّ أكثر من غيري، موضحاً أنه لا يريد أن يسمع عبارة “عم تغنج ابن عمك” أو تعامله معاملة خاصة غير الباقين. وهذا لعمري كان الدرس الأول لي، حيث أراد صاحبه أن أعتمد على نفسي أولا،ً وأن أكون يقظاً في عملي كسكرتير تحرير تقع عليه مسؤولية مراقبة صفحات المجلة قبل طباعتها والتأكد من خلوّها من الأخطاء، سواء بالعناوين أو بالنص أو بالصور وكلامها. من هنا كنت أُطرب عندما يقول لي مبتسماَ وهويشير بابهامه الى عينيه: “ابراهيم كونترول”.

من واجبات سكرتيرية التحرير أن أقرأ ما تيسر من مقالات وتحقيقات معدّة للنشر. ولا أبالغ اذا قلت بأن أكثر ما كان يستهويني وأستمتع بقراءته ما يخطه قلم ابن العم، خصوصا اذا ما كان هناك تحقيق يصنّف “سكوب”، أي خبطة صحافية كما هي التسمية المتعارف عليها.
كثيرة هي “السكوبات” التي خرج بها وليد عوض. لكن هناك واحداً ما فتئ عالقاَ في ذهني، وماثلاً أمام عيني. هو ذلك التحقيق الذي كان نجمه رئيس حركة “تشرين 24” الطرابلسي الراحل فاروق المقدم، الذي أعلن “انتفاضة ” على طريقته ولجأ الى القلعة الشهيرة في “أبي سمراء” وحاذر الجيش يومها دخولها خوفاً من إراقة الدماء، بعد أن حصل اطلاق نار ودارت اشتباكات روّعت المدينة التي شُلّت الحركة فيها وأضحى “نزيل القلعة” حديث الناس والشغل الشاغل للبنان بأسره.

وقف سليم اللوزي يتساءل كيف يجب التعاطي مع الموضوع؟ فإذ بوليد عوض يرد “علينا دخول القلعة بأي طريقة”. ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى كان ابن العم يحطّ في طرابلس ويقوم بعملية تسلل اليها. لا أدري كيف تمّ ذلك. ولم يشأ الإفصاح عمّا فعله لبلوغ هدفه. لكن ما أعرفه أنه استغل علاقته الممتازة مع قادة عسكريين في الشمال، ومجموعة من رفاق فاروق المقدم (أبو نافذ) وحقق ما أراد. وصدرت “الحوادث” يوم الجمعة، في موعدها الأسبوعي المعتاد، وعلى غلافها صورة كبيرة للشاب الطرابلسي الثائر وهو ينفث سيجارته مع تطاير الدخان منها.

لا أخفيكم بأن العدد هذا نفذ من الباعة والمكتبات بعد ساعة من توزيعه، مع العلم أننا ضاعفنا كمية الطباعة. وأضحت “الحوادث” يومها على كل شفة ولسان من القمة حتى القاعدة. واسم وليد عوض “يلعلع” في كل مكان. وهذا يحدوني الى القول، بكل صراحة وصدق من دون مجاملة، صحيح أن اسم “الحوادث” ونجاحها ارتبط باسم صاحبها سليم اللوزي، لكن من ساهم في انتشارها هم العاملون فيها، وفي مقدمهم الأستاذ وليد عوض. وإذا كان هناك من مايسترو جيد فما نفعه ان لم يصحبه قائد أوركسترا ممتاز؟.

هكذا كانت “الحوادث”.. المجلة الأولى في لبنان. المدرسة الصحافية التي لا تتكرر. والدليل أنني حين غادرتها بعد سنتين من التعلم فيها، ورحت أبحث عن وظيفة في مطبوعة ثانية، استُقبلت بالترحاب من قبل القيمين عليها الذين لم يسألوني حتى عن سيرتي الذاتية بعد أن أبلغتهم بأنني آتٍ من “الحوادث”. وكان ردهم “أنت من تلاميذ سليم اللوزي ووليد عوض هذا يكفي”.

نعم.. ابراهيم عوض الذي تتلمذ على يد الأستاذين الراحلين شقّ طريقه في دنيا الصحافة. ولم يكن ليوفّق لو لم ينتسب الى المدرسة إياها ويتعلم “ألف باء” الاعلام من المبدع في دنياه ابن العم أستاذي وليد عوض، الذي رحل عنا قبل أيام وأبقى القلم أمانة في أيدينا مع وصية لطالما كان يرددها أمامي وأمام المئات من الذين غرفوا من أسلوبه وساروا على دربه: لا تجنح في الكلام. ولا تقسو. لا تفقد التوازن ولا تضعف أمام المغريات .أنسج أوسع شبكة من العلاقات مع الخصم قبل الصديق والأهم قل كلمتك وتوكل على الله.

في مجلس العزاء، وعلى مدى الأيام الثلاثة التي استقبلنا فيها المعزين برحيل صاحب ورئيس تحرير “الأفكار” وليد عوض، شاهدنا الجميع من كل حدب وصوب، ومن مختلف المشارب والاتجاهات. وبين البعض منهم “عداوة كار” كما يقال. وثمة من استاءه رؤية هذا أوذاك وهذا شأنهم “لأن الوالد علمنا بألا نكره أحداً”..

كلمات – وصية أسرّها لي نجله المهندس خالد.

 

(عن مجلة “الأفكار” الاسبوعية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى