مقالات مختارة

البحث عن “الشريف”! كتب ابراهيم عوض

 

كنا صغاراً نهرع لمشاهدة أفلام “الكاوبوي”، التي ذاع صيتها واحتلت الشاشات زمن الخمسينيات والستينيات بصورة خاصة. وأسماء أبطالها حُفِرت في الذاكرة أكثر من حفظنا للمقرر الدراسي أحيانا. وما فتئنا نستعيد صورهم حتى يومنا هذا. فها هم غاري كوبر وبرت لانكاستر وكلينت ايستوود ويول براينر.. يمتطون الجياد، التي تُسرع بالعدو  وتتفنن في القفز. تلحق بالأشرار الذين يحاولون الافلات من قبضة “الشريف”، وهو الاسم المرادف للسلطة الممثلة برجل الأمن والاصلاح الذي تُزيّن صدره نجمة فضية تُعرّف عن شخصه وتُكسبه “الوهرة” التي تلمس مفعولها على وجوه من يدخل اليهم في الحانات أو في الساحات

..

مع ذكر هذا النوع من الأفلام، نترحم على صالات السينما التي كانت موزعة في طرابلس بين “التل” والبولفار” وما بينهما. ومنها اكتسبت شهرة من حيث المقاعد الفخمة، والديكور المتقن، وكبر المساحة، على غرار سينما “بالاس” و”كولورادو”. وقد لحقت بهما “الأمبير” التي نفضت داخلها وافتتحت بعد أن جددت نفسها على ما أذكر بفيلم “فايكينغ” لبطليه كيرك دوغلاس وطوني كيرتس.

جميلة كانت أيام “السينمات” عندنا. ومحظوظ كان من يوفّق بمقعد يومي السبت والأحد تحديداً. والطريف أن ثمة صالات تخصصت بنوع معين من الأفلام، أمثال “الريفولي” التي كنا نتابع منتجات السينما العربية على شاشتها. فيما “المتروبول”، لصاحبها الراحل جورج حبيب، تعرض الأفلام الرومانسية والدرامية والبوليسية. وهي التي انطلق منها الفيلم الأول لـ “جيمس بوند” العميل السري، لصاحبة الجلالة، والمقصودة هنا الملكة اليزابييت، الذي لعب بطولته شون كونري ومعه الشقراء أورسولا اندرس. وقد مُدد عرضه أسبوعين، فيما أضحى “بوند” شخصية أسطورية أُنتجت له مجموعة أفلام ما زلنا ننتظر جديدها حتى يومنا هذا.

لست هنا في صدد الاستفاضة بالحديث عن دور السينما في طرابلس وروادها. وما استعارتي لهذه الذكريات الا للإضاءة على حالنا وما بلغ وضعنا من تردٍ في كافة المجالات.أيام الذهبية التي عشناها في طرابلس. يوم كانت السينما سلوانا قبل التلفزيون، الذي لم يكن قد أبصر النور بعد، نعمنا فيها بالأمن والاستقرار والرفاهية، كما في كل لبنان، حتى أضحى اسمه “سويسرا الشرق” و”مستشفى العرب” نظراً للشهرة التي اكتسبتها بيروت في الطبابة والاستشفاء. وصاحبنا “الشريف” الذي تحدثنا عنه كان ممثلاً بالدركي و”الفرقة 16″، الطيبة الذكر. لكن أمثال الأشرار في أفلام “الكاوبوي” لم يكونوا حاضرين على ساحاتنا في ذلك الزمن الغابر الذي لم نسمع فيه بكلمة “خُوّات”، ولا بأن هناك من يفرضها على الناس. لكن حظنا العاثر جاءنا بأمثالهم، خصوصاً في سنوات الحرب الكارثية، التي قلبت حياتنا رأساً على عقب وحولتها من هنية الى مذرية. وما كان يؤلم أكثر حينذاك أن مسلحين اثنين، أو أكثر بقليل ، ومنهم لم يبلغ سن المراهقة، كانوا يتحكمون بالشارع أو الحي الذي يقطنه عامة الناس المغلوب على أمرهم .

هذا الكابوس الذي لازمنا طويلاً أُزيح عن صدورنا، بعد أن وضعت الحرب أوزارها وراحت الدولة تسترد مواقعها وسلطتها على وقع اتفاق الطائف الذي ما زلنا نستظل ببنوده، لا بل ننعشه كلما دعت الحاجة لذلك، مع العلم أن الكثير مما ورد فيه لم يُطبّق حتى الساعة وثمة من ينادي بتعديله مما يعني تعديل في فقرة أو أكثر من الدستور؟

ليس هنا بيت القصيد.. فقد ظننت، ومعي الكثيرون، أن زمن التشبيح و”التشليح” قد ولى الى الأبد. وبأن لا صوت يعلو فوق صوت الدولة ومؤسساتها، لنفاجأ بأن هناك من لا يكترث للقانون ولا يهاب السلطة وما فتىء يتصرف وكأننا ما زلنا في زمن الفلتان إياه. والمثال على ذلك واضح شاهدناه بأم العين، وبالصوت والصورة قبل أيام، وفي عقر منطقة الضاحية، حيث قام أحد العتاة يعاونه شقيقه باطلاق النار على مطعم تخّلف صاحبه عن دفع “المستوجب عليه” لمطلق النار بدل “حماية وحراسة” كما ذكر. والغريب أن الأخير قام بعمليته العسكرية في وضح النهار، وعلى مرأى ومسمع رواد المطعم والمارة كاشفاً وأخيه عن وجهيهما. والمؤسف أن تلك الواقعة ليست الأولى، فقد جرى ويجري مثلها، وفقاً لما طالعتنا به الأنباء في أكثر من مكان، وإن لم تصل الى مرتبة ما حصل في الضاحية.

وشاءت الصدف أن تتزامن هذه العملية مع أصوات ارتفعت تطالب بألا يقطن هذه المنطقة أو تلك الا أصحاب المذهب الذي تنتمي اليه غالبية سكانها. مما يعني الفرز الطائفي بأبشع مظاهره، كما كان عليه الأمر زمن الحرب التي أملنا أن نطوي صفحتها نهائياً فإذ بها تطل من وقت لآخر، بانتظار “الشريف” الفعلي المخلّص من كل هذه الآفات والتردي والجهل التي إن تواصلت لبلغنا الفتنة لا محالة.

(عن “البيان” الطرابلسية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى