مقالات مختارة

الصواريخ الدقيقة: إسرائيل أمام سيناربو الكارثة: محمد بدير

 

«مشروع الدقة» هو الاسم الذي تطلقه إسرائيل على مساعي حزب الله لامتلاك و«إنتاج» قدرة صاروخية دقيقة. هذا الاسم تحوّل في الأعوام الأخيرة إلى عنوان الاشتباك الساخن القائم ــــ سياسياً وميدانياً ــــ بين المقاومة وتل أبيب على جبهتي سوريا ولبنان. ليس الأمر أن الصواريخ غير الدقيقة التي تمتلكها المقاومة (عددها بحسب آخر الإحصاءات الإسرائيلية يصل الى نحو 140 ألفاً) لم تعد تمثل تهديداً لإسرائيل يستدعي المعالجة. ولكن، غاية المسألة أن العدو صار يائساً من إمكان التأثير على الكم العددي المتراكم لهذه الصواريخ، بحيث أصبح أي جهد سياسي أو عملياتي ــــ وقائي أو استباقي ــــ ضدّه عبثياً، وأشبه بالحراثة في بحر. لكن يبقى أن للصواريخ الدقيقة خطورتها الاستثنائية في ميزان التهديدات الإسرائيلي .

ترتكز القوة العسكرية الإسرائيلية على دعامتين أساسيتين: المناورة البرية المدرعة والسريعة، أي القدرة على التوغل داخل أراضي العدو والسيطرة عليها في وقت قياسي؛ والتفوق الجوي، أي القدرة على الوصول إلى أي نقطة في ساحات العدو واستهدافها بدقة. المقاومة قوّضت، عملياً، الدعامة الأولى من خلال اشتغالها على أمرين: الأول هو تصورها العملاني القائم على القتال الميليشياوي الذي من شأنه أن يحول أي سيطرة برية إلى حالة استنزاف مميت، والثاني هو حيازتها صواريخ موجهة مضادة للدروع قادرة على الفتك بدرّة تاج التدريع الإسرائيلي المتمثل بدبابة «ميركافا» من الجيل الرابع. أما الدعامة الثانية، فرغم أن المقاومة لم تعلن ــــ حتى الآن ــــ امتلاكها قدرات إعتراضية بإمكانها التصدي للتهديد الجوي أو الحد منه، لكنها اشتغلت على امتلاك قدرات موازية سعت من خلالها إلى اختزال هذا التهديد، بمعنى إيجاد توازن مقابلٍ لفعاليته القتالية. تجسد ذلك في السلاح الصاروخي الذي وفّر للمقاومة إمكانات هجومية ميزتُها القدرة على استهداف «عقب أخيل» الإسرائيلي المتمثل بالجبهة الداخلية التي من المسلّم أن امتداد رحى الحرب نحوها يشكل عاملاً حاسماً في التأثير على مسارها ونتائجها.

لكن حتى هنا، كانت فعالية التهديد الصاروخي إحصائية. ذلك أن الصواريخ، بنسختها الغبية، ستضرب العمق بشكل شبه عشوائي، وسينتج منها أثر تدميري غير مركز. في حين أن إدخال خاصية الدقة إلى الرمايات النارية العميقة من شأنه أن يضفي قِيَماً مضاعفة على فعاليتها الحربية، وذلك من خلال ثلاثة مسارات: الأول، إتاحته إمكانية ممارسة الضغط المباشر على القدرة القتالية للجيش الإسرائيلي عبر استهداف الثكنات العسكرية وقواعد سلاح الجو ومناطق التحشيد ومنشآت السيطرة والتحكم وما شاكل؛ الثاني إتاحته إمكانية تشويش بل وشلّ منظومات الخدمات المتعلقة بالبنى التحتية المدنية لفترات طويلة والتسبب بأضرار قيمتها مليارات الدولارات؛ وأخيراً إمكان الارتقاء في فعاليته إلى حد السلاح غير التقليدي من خلال استهداف منشآت غير تقليدية، بتروكيميائية أو نووية.

بهذا المعنى، تحولت صواريخ المقاومة الدقيقة إلى الرد النقيض على التفوق الإسرائيلي الجوي، لجهة أن استخدامها يمنح المقاومة القدرة على فعل بما يقوم به سلاح الجو، أي استهداف أي نقطة داخل العمق الإسرائيلي، لكن من دون طائرات.

لكن ثمة إضافة، هي أن حساسية إسرائيل لتهديد السلاح الدقيق وأضراره حساسية مضاعفة قياساً إلى دول أخرى. فمن جهة، هي «دولة» حديثة ذات بنى تحتية حيوية متطورة، ومن جهة أخرى، مساحتها الجغرافية محدودة وتفتقر إلى العمق الآمن، فيما بناها التحتية تنحو إلى المركزية وقلة الوفرة. على سبيل المثال، وفقاً لبحث نشره معهد أبحاث الأمن القومي في إسرائيل، يتبين أن 28 في المئة من مجمل الطاقة الكهربائية المنتجة في إسرائيل، والبالغة نحو 18 ألف ميغا وات، يجري إنتاجها في معملين فقط، فيما يتوزع إنتاج 51 في المئة منها على ستة معامل أخرى. يعني ذلك أن تهديداً يتضمن عدداً قليلاً من الصواريخ الدقيقة تتمكن من اختراق الطبقة الدفاعية الاعتراضية وتصيب هذه المعامل يمكن أن يحدث كارثة خدماتية واقتصادية لا سابق لها. وبحسب البحث نفسه، فإن الصورة مشابهة أيضاً في ما يتعلق بمنظومات حيوية أخرى، مثل منظومة إدارة الكهرباء القطرية، منشآت إنتاج ونقل الغاز الطبيعي في البحر وعلى الساحل، منشآت تحلية المياه (خمس منشآت فقط تزود إسرائيل بنصف مياه الشفة التي تستهلكها)، المنشآت البتروكيمائية وغيرها. طبعاً من البديهي أن نضيف إلى ذلك المرافق الأساسية المعدودة مثل مطار بن غوريون أو مرافئ حيفا وأسدود وإيلات لنصبح أمام تهديد يحاكي شبه انهيار في بيئة هشة لم تعتد تحديات كارثية كهذه.

ثمة معضلة إسرائيلية أخرى في هذا السياق. لدى قادة العدو رأي متبلور يجري التصريح به مواربةً بين الحين والآخر، بأن خاصية الدقة في صواريخ حزب الله من شأنها أن ترحل مسألة الجبهة الداخلية ببعدها المدني إلى المرتبة الثانية في سلّم الأولويات قياساً إلى أهمية وتأثير الأهداف ذات الطابع العسكري حال استهدافها خلال الحرب. يعني ذلك أن أولوية الحماية التي يُفترض أن تؤمنها منظومات الاعتراض الدفاعي (القبة الحديدية وغيرها) ستكون للمنشآت العسكرية الضليعة بالجهد القتالي، وسيكون ذلك على حساب كشف المدنيين أمام الهجمات الصاروخية، مع ما يعنيه ذلك من تنامي حدة النقمة الشعبية على الحكومة وانعكاس ذلك في إدارتها للحرب.

يصبح مفهوماً والحال هذه أن التهديد الصاروخي الدقيق، مقارنة مع الصاروخي العشوائي، هو في الموازين الإسرائيلية تهديد لا يُحتمل. فهو يمنح المقاومة مستوى نوعياً من التهديد، معطوفاً على التهديد الاستنزافي الكمي الذي يشكله الاستهداف العشوائي. وهذا التهديد النوعي ليس من شأنه فقط أن يثقل حسابات الارتداع الإسرائيلي عن الحرب، وإنما أيضاً أن يشكل محدداً أساسياً في إدارتها من حيث الكثافة والوتيرة والمدى، ودافعاً قوياً لتقصير أمدها بقدر ما يكون الأمر متاحاً من الناحية العملية.

بالتالي يصبح مفهوماً أيضاً بداهة أن تخرج إسرائيل عن طورها في مساعيها للحؤول دون امتلاك المقاومة لهذا السلاح، وبداهة أن تسعى الأخيرة إلى امتلاكه بالرغم من كل شيء. «قضي الأمر»، صرّح الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، قبل أشهر في سياق تطرقه الى هذا الاستحقاق. يُفهم من ذلك أن حيازة المقاومة للصواريخ الدقيقة تجاوزت مرحلة أن يؤثر فيها أي جهد إسرائيلي عملاني أو سياسي. لننتظر فقط وصول تل أبيب إلى هذه النتيجة، فهي عوّدتنا أن تصل متأخرة، لكنها ستصل. حصل ذلك من قبل مع أمداء الصواريخ وأنواعها وأعدادها.

(الاخبار)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى