مقالات مختارة

الغربة العربية الطويلة عن العصر مُدمرةٌ: د. وفيق إبراهيم

 

تنفرد الدول العربية بآليات تغيير داخلية لم يعد لها مشابهاً على المستوى العالمي حتى انها اصبحت تمتلك مشهداً سياسياً خاصاً يعيد انتاج المراحل الاولى لشكل الدول قبل أكثر من ثلاثة قرون .

الملاحظة الاولى ان محاولة المجتمعات العربية التمرد على هذا الواقع المستوطن في بؤس التاريخ تتعرض لنوعين مترابطين من القمع: الجيوش والسياسات الغربية المشجعة لها.

الأمثلة جاهزة على صحة هذه المعادلة، ففي الجزائر حاول اهلها تقديم طلب انتساب الى العصر الحديث، مشكلين أرقى انواع الحراك النوعي والجماهيري ضاغطين لبناء معادلة حكم حديثة تُلغي ديكتاتورية فاسدة مقنعة برئيس غائب عن الوعي مصاب بجلطة دماغية، وقبل نجاح مشروعهم بوقت قصير أجهض الجيش مشروع بناء الدولة الحديثة بإيحاءات اوروبية وأطلسية مستولياً على السلطة كوديعة، حسب زعمه الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً ومتذرعاً كالعادة بدقة المرحلة وضرورة استقرار الأوضاع.

هذا ما وضع الجزائر اليوم امام واحد من احتمالين: الاستكانة الجماهيرية وهذه تؤدي الى اعادة تأسيس ديكتاتورية عسكرية اكثر سوءاً من مرحلة طويل العمر بورقيبة.

واما العودة الى الحراك الشعبي بما يعنيه من صدام عسكري اهلي يُنتجُ في نجاحه دولة عصرية ويدفع في حال فشله الى تعجيز الجزائر مناطقياً وعرقياً. للاشارة فقط فإن هذا البلد هو الاوسع مساحة بين البلدان العربية وقبل السودان والسعودية، وتختزن أراضيه كميات هائلة من النفط والغاز والمعادن الأخرى.

ليبيا بدورها كانت تنتظر انعقاد مؤتمر أممي للصلح بين قواها الأساسية منتصف الشهر الفائت وقبل الموعد بأيام قليلة تحرك «جيش حفتر» للقضاء على قوات «السراج» منهياً فكرة اعادة تأسيس ليبيا بدولة واحدة مقبولة ومعاوداً اقحامها في تقاتل عسكري واهلي مفتوح بإيحاءات خليجية تجسد اوامر غربية متناقضة.

بدوره السودان لم يشذ عن القاعدة التقليدية المتعلقة باحتواء الغضب الجماهيري.

هذا البلد ينظم أهله حراكاً ضخماً حاشداً في وجه ديكتاتورية عسكرية مطلقة تحكم منذ 31 عاماً متواصلاً وعندما تمكنت التظاهرات الشعبية المتواصلة من حشر النظام انقلب الجيش على الجيش في إطار تمثيلية بإخراج مصري خليجي غربي قضت بإبعاد الرئيس عمر البشير المسيطر على الجيش والمتحدر منه لمصلحة عسكري متجدد لسنتين متتاليتين وجديده هو التغيير في اسم الرئيس فقط.

وهكذا فإن السودان ايضاً امام احتمالين: نجاح الجيش في احتواء الحراك الجماهيري او الصدام مع المتظاهرين وهذا يؤدي في حالة فشله الى تصدع السودان الى «سودانات» متعددة كما يشتهي المخطط الخارجي.

يُذكر أن الاميركيين اقنعوا البشير في اوقات سابقة بانفصال جنوب السودان الذي يحتوي على كميات كبيرة من النفط، فهل تعيين الجنرال عوف مقدمة لتصديع جديد في السودان الثاني عربياً في المساحة وبإمكانات هائلة؟

ما يمكن استنتاجه حتى الآن ان التظاهرات في الجزائر والسودان تعبر عن بداية تشكل وعي جماهيري ذي طبيعة حديثة تنفصل عن الآليات التقليدية المعتمدة في معظم البلدان العربية.

والدليل ان هذه التحركات الجديدة تتسم بميزتين: السياسية والطبقية، فهي تريد حكماً عصرياً ينبثق من انتخابات شعبية مستنداً الى مؤسسات تمنع الدكتاتورية كما تجسّد مطالب الفئات الفقيرة في مجتمعاتها التي حولتها الديكتاتوريات الى تحت خط الفقر.

هذا التحول الجماهيري لا يزال في بداياته وقد يتغير لاجتماع المصالح بين المستفيدين في الداخل والمسيطرين من الخارج.

لكنه دق جرس الإنذار الفعلي للضغط الجماهيري النوعي الذي يؤدي الى ولادة الدول الحديثة.

لذلك استنفر الداخل التقليدي ومعه اساليب التحشيد التاريخية من القبلية والجهوية والطائفية والمذهبية وذلك للقضاء على النوعية الوطنية الجديدة للتحرك، فساندها فوراً الدور الغربي المهتم بإبقاء المجتمعات العربية في خانة الانقسامات التقليدية التي تنتمي الى مرحلة ما قبل الرأسمالية.

أما الأسباب فواضحة، وترتبط بإصرار غربي على المحافظة على حالة الانقسام داخل المجتمعات العربية ومنعها ولو بالقوة من إدراك مرحلة الاندماج الاجتماعي الوطني الذي يُزودُ الدولة بقوتها واستقرارها.

وهذا ما حدث في مراحل تطور الغرب نفسه في المراحل الطائفية والجهوية الى المستوى الاندماجي الوطني الذي تأسس على قواعد طبقية وسياسية.

إن القهر الاجتماعي في العالم العربي هو الذي يؤدي دور الدافع الى الانصهار الاجتماعي فيما انتجت العدالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية البناء المستولد للاندماج في الغرب.

هذه هي الأسباب العميقة التي تجعل الغرب يفضل النماذج الخليجية للحكم القبلية الطابع، والطائفية حيناً والمذهبية حيناً آخر، فتبقى ضعيفة مسلوبة الارادة تتغطى بالنظام الغربي العام وتعطيه قسماً كبيراً من الثروات وتسرق الباقي، وتواصل منع الناس من التطور على قاعدة الولاء الكبير للسلطات الحاكمة والولاءات التاريخية لخلفياتها القبلية.

هناك دليل صغير على هذه التمثيليات المركبة، بإخراج غربي وهو تحرّك الجيوش في هذه الدول الثلاث والتأييد الخليجي الغربي وسط ابتهاج اسرائيلي، هذا بالإضافة الى دليل إضافي وهو رفض هذا الغرب عسكرياً لمحاولات الجيشين السوري والعراقي القضاء على الإرهاب في بلديهما.

فلماذا يؤيد الغرب اذاً الجيوش في مصر والسودان والجزائر في ليبيا؟ هذه الجيوش لا تجابه إلا التيارات الجماهيرية الواعدة في بلدانها بينما حاول هذا الغرب نفسه شل حركتي الجيشين السوري والعراقي لأنهما كانا يقاومان الإرهاب والحركات الطائفية والمذهبية القاعدة والنصرة وداعش… .

يبدو أن الأفق واعد لكنه يشي ايضاً بحلف أميركي خليجي مدعوم اسرائيلياً تحت مسمى «الناتو» لمنع هذه التحولات بالقوة وتحت راية جيوش عربية لا تفعل إلا قمع الشعوب وفتح الابواب للهيمنات الغربية التاريخية.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى